روعة قاسم 

 رغم بعض الهنات التي شهدها حفل افتتاح أعرق المهرجانات السينمائية العربية، إلا أن ذلك لا يمنع من القول أن مهرجان قرطاج لم يشذ عن القاعدة في خمسينيته وبقي وفيا لخصوصياته باعتباره ملتقى لسينما المؤلف الهادفة، التي تعالج مشاكل دول الجنوب تحت إشراف وزارة الثقافة دون سواها. فالدولة التونسية لا ترغب في التفريط في مهرجانها للقطاع الخاص خشية من فقدانه لخصوصياته التي تأسس من أجلها سنة 1966 على يد السينمائي المرحوم الطاهر شريعة، وخشية أيضا من تحوله إلى مهرجان تجاري أسوة بالمهرجانات الحديثة التي تأسست في المحيط الإقليمي.
لقد حصل إجماع من قبل جمهور مهرجان قرطاج، الذي غصت به القاعات في العاصمة التونسية وضواحيها مثلما جرت العادة، على أن أغلب الأفلام المشاركة هي ذات جودة عالية من حيث المضمون والمواضيع التي تعالجها. فأغلبها بقي وفيا لخط المهرجان، الذي دأبت لجنة انتقائه على الصرامة في عملية اختيار الأفلام من بين تلك التي يتقدم أصحابها بطلب المشاركة.

العشرية السوداء

عادة ما تبرز السينما الجزائرية في مهرجان قرطاج بأفلام تجد إقبالا من الجمهور التونسي باعتبار التشابه إلى حد التطابق في العادات والتقاليد وحتى المشاكل بين التونسيين والجزائريين. وقد برز في السابق مخرجون جزائريون كبار في مهرجان قرطاج الذي كان منطلقهم نحو العالمية، ويمكن في هذا الإطار ذكر لخضر حمينة ومرزاق علواش على وجه الخصوص اللذين تركا بصمات لا تنسى في قرطاج ومنها عرفهم العالم.
وفي هذه الدورة برز بالخصوص المخرج الجزائري سالم براهيمي من خلال فيلمه «الآن يمكنهم المجيء». ويصور المخرج من خلاله حياة شاب جزائري مثقف اختار عدم الهجرة وتزوج وأنشأ أسرة خلال العشرية السوداء لعقد التسعينيات في الجزائر التي شهدت استفحال الإرهاب.
يصور الفيلم تضييق التيار المتطرف على حياة الجزائريين، من خلال حضور ذوي النزعات الأصولية اجتماعات النقابات العمالية واتهامهم للنقابيين بالكفر، ثم قيامهم لاحقا بقطع رأس صديق بطل الفيلم ووضعه في كيس بلاستيكي وإلقائه في المزابل، وذنب الضحية أنه يساري من المطالبين بالعدالة الاجتماعية. ويصور الفيلم أيضا كيف يقوم المتطرفون بمهاجمة الشبان والفتيات بالهراوات على شواطئ البحار، وكيف تتجول بعض النساء من المنتميات إلى هذا التيار المتطرف بين البيوت بهدف «تعليم النساء الجزائريات دينهن» بإصرار عجيب يصل إلى حد الاستمرار في دق جرس بيت البطل لوقت طويل حتى تفتح الزوجة التي أرعبها مشهد الطارقة وهي تتغطى بأكملها بالسواد. ويمرض إبن بطل الفيلم فيأخذه والده إلى المستشفى لكنه يصطدم بقطع الطريق من قبل جماعة أقامت الحواجز لكن تفترش الأرض لتستمع لأحد مشائخ هذا التيار التكفيري. فيضطر البطل وزوجته إلى النزول من السيارة وقطع صفوف الأصوليين مشيا على الأقدام لإنقاذ فلذة كبده بعد أن رفض من أقاموا الحاجز إزاحته.
وفي الفيلم أيضا مشاهد قتل، ودماء تسفك، وتفجيرات، ورعب، وغياب تام للأمن، ومدنيون يقتلون بدم بارد من قبل مسلحين، وحواجز أمنية وعسكرية وطائرات مروحية. وبطل الفيلم يبحث بهستيريا عن زوجته وابنه المفقودين ليجدهما في النهاية. لكنه يضطر إلى التنقل في نهاية الفيلم إلى أحد الأماكن رفقة ابنته فتتعطل سيارته ليلا في مكان مقفر، فيحمل الصغيرة بين ذراعية ويقصد قرية نائية لاحت له أضواءها لعله يجد فيها العون وما يمكنه من الاتصال بزوجته وابنه، لكن الصدمة كانت في انتظاره حيث وجد سكانها وقد أبيدوا عن بكرة أبيهم وتم التمثيل بجثثهم من قبل المسلحين الذين حاصروه فاعتصر ابنته بين ذراعيه خوفا، حتى فارقت الحياة.

الأفلام التونسية

أما فيما يتعلق بالأفلام التونسية فقد لفت الإنتباه فيلم «زهرة حلب» لرضا الباهي وهو من بطولة هند صبري وهشام رستم ومحمد علي بن جمعة ويعالج ظاهرة إقبال الشباب التونسي على الانخراط بداية في الجماعات التكفيرية ثم التوجه إلى سوريا ليتم استخدامه وقودا لمعارك من المفروض أن لا ناقة ولا جمل له فيها. وقد انتشرت هذه الظاهرة كثيرا في السنوات الأخيرة، وبات الكل يشخص أسبابها للبحث عن الحلول الكفيلة بمعالجتها.
كما لفت الإنتباه أيضا فيلم «تالة حبيبتي» للمخرج مهدي هميلي، وتالة هي مدينة تونسية قريبة من الحدود الجزائرية وتنتمي إلى ولاية القصرين. وكانت هذه المدينة قد شهدت أحداث عنف دموية إبان «الحراك الثوري» الذي عرفته تونس نهاية 2010 وبداية 2011 وسقط منها عدد كبير من القتلى ونظر القضاء العسكري التونسي في القضية المتعلقة بشهدائها.
ويسلط الفيلم الضوء على الفترة السابقة واللاحقة لسقوط نظام بن علي في مدينتي تالة والقصرين، من خلال امرأة تزوجت مكرهة من رجل لا يجمعها به أي رابط عاطفي بعد أن اعتقدت أن من تحبه وهو معارض لنظام بن علي قد فارق الحياة في حين أنه سجين سياسي. والبطلة حورية هي بدورها معارضة للنظام القائم وترغب في إزاحته مثل حبيبها المفقود وقد غادرت تالة المثقلة بالذكريات الجميلة مكرهة لتستقر في القصرين.
ومع اندلاع شرارة «الثورة» تعود حورية للنشاط السياسي سرا، ويعود حبيبها محمد إلى البحث عنها في تالة رغبة في الاستقرار وتكوين أسرة معها. لكن السجين السياسي السابق الذي رغب في العيش بهدوء ومغادرة الحياة السياسية يصطدم بزواج حورية من جهة، وبرغبتها في مواصلة تعاطي النشاط السياسي، من جهة أخرى. وهناك أفلام عديدة نجحت في جلب انتباه جمهور قرطاج ومنها الفيلم المصري «اشتباك» للمخرج محمد دياب، وهو من بطولة نيللي كريم وطارق عبد العزيز وهاني عادل. ويصور الفيلم الوضع المصري بعد الإطاحة بالرئيس السابق محمد مرسي، بطريقة فيها الكثير من الاحترافية لا تبدو غريبة على السينما المصرية التي عادة ما تتألق في قرطاج من خلال مخرجين كبار يأتي في طليعتهم يوسف شاهين الذي اقترن إسمه في وقت ما بهذا المهرجان الذي نال فيه الجوائز كمخرج وحضره كضيف شرف وتم تكريم أسمه في هذه الدورة بعد وفاته.
كما شد الفيلم المغربي «ديفين» للمخرجة هدى بن يمينة الإنتباه إلى جانب أفلام أخرى من فلسطين والأردن وإيران وغيرها. ويبدو أن المنافسة على جوائز «التانيت» كانت شرسة وهو ما جعل مهمة لجنة التحكيم عسيرة خاصة وأن سينما افريقيا جنوب الصحراء اعتادت على المنافسة والتألق وحصد الجوائز في هذا المهرجان وعلى رأسها «التانيت» الذهبي، أهم جوائز قرطاج السينمائي.