حسن أبو هنية

شكلت مسألة الادماج السياسي للإسلاميين مصدر قلق كبير للدول العربية السائرة نحو الديمقراطية فالسؤال المركزي للسلطة يقوم على جملة من المواصفات والمقاييس المطلوبة التي يمكن الاستناد لها لإعادة هيكلة المجال السياسي والحقل الديني في سبيل العبور الآمن من السلطوية إلى الديمقراطية ذلك أن مجموعات إسلامية كثيرة تم استبعادها وقمعها أو تهميشها من قبل أنظمة وحكومات سابقة ترغب في المشاركة والادماج وبهذا يصبح سؤال الإدماج ملحا ولا يحتمل التأجيل فأي من الحركات ينبغي إدماجها؟ وما هي الحركات التي يجب استبعادها؟، وقد باتت مسألة الإدماج السياسي بعد الانتفاضات العربية أشد إلحاحا لكن عقب فشل عمليات التحول الديمقراطي وإعادة إنتاج أنظمة شبه سلطوية أصبحت شروط الإدماج السياسي أكثر تعقيدا ورغم ذلك فإن ثمة قناعة بصعوبة العودة إلى السلطوية وضرورة التقدم باتجاه الديمقراطية والدخول في مخاض عملية إصلاح شاملة على نطاق واسع.

على مدى عقود طرحت مسألة الادماج السياسي للجماعات الإسلامية بشكل صريح وقد ساهم في تطوير المقاربة بطرائق وزوايا مختلفة عدد من الباحثين منذ عقد التسعينيات من القرن الماضي وأحد أبرز المسائل الإشكالية لفرضية الإدماج الاعتدال، هي مسألة تعريف ماهيّة الاعتدال وإمكانيّة قياسه ذلك أن الاعتدال يعرف غالبا بالسلب كنقيض للراديكالية والتطرف وهي مفاهيم تتحول في الأنظمة السلطوية وشبه السلطوية إلى قضايا ذاتية غير موضوعية حيث يصبح المعتدل رهنا للسلطة السياسية التي ترغب باستدخاله وتطويعه لأهوائها دون أي قيد أو شرط ودون أن تتغير هي.

ومن الناحية النظرية فإن الاعتدال يستلزم عملية تغيير يمكن وصفها بأنها حركة على خط متصل من الراديكالية الى الاعتدال حيث كل ابتعاد عن الممارسات الإقصائية (من النوع الذي يعتبر جميع وجهات النظر البديلة غير شرعية، وبالتالي خطرة) يساوي زيادة في الاعتدال لكن المشاركة السياسية للإسلام السياسي في العالم العربي تؤكد على أن المكاسب التي يوفرها الانفتاح البنيوي تقع في سياق لعبة التحكم شبه السلطوي التي تعمل على استدخال الخركات الإسلامية لتصبح جزءا من منظمومة ما وللعب وفقا لقواعد اللعبة شبه السلطوية وهي قواعد تحددها وتسيطر عليها الأنظمة القائمة، وهذه العملية هي ما أطلق عليها صموئيل هنتنغتون «التبادل بين المشاركة والاعتدال»، وهي نوع من «الصفقة الديمقراطية»، بحيث تصبح جماعات المعارضة مؤهلة للاستفادة من الانفتاح السياسي فقط في حال الالتزام بـ«الاعتدال في التكتيكات والسياسة»، من خلال الموافقة على نبذ العنف وأي التزام آخر بالثورة، وتقبل الشكل القائم للمؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

إشكالية الاعتدال الادماج تغدو أكثر تعقيدا وغير ممكنة مع وجود سياسات سلطوية تستند في رؤيتها إلى حركات الإسلام السياسي من منظور استشراقي يماهي بين الإسلام والعنف والإرهاب ويتعامل مع تنوعات الحركات الإسلامية الدعوية والسياسية والجهادية باعتبارها اختلافات كمية لا نوعية الأمر الذي يجعل من مفهوم الاعتدال الإسلامي غير ذي قيمة باعتبار الإسلام ذاته يتناقض مع الحداثة السياسية وفي مقدمتها الديمقراطية فالاعتدال الإسلامي بحسب المنظور الاستشراقي والثقافي يعني التخلي عن الإسلام والدخول في أفق العلمنة الليبرالية.

من أكثر المقاربات انتشارا في تفسير غياب الديمقراطية في العالم العربي المقاربة الثقافية التي تركز على القيم والمعتقدات والمواقف التي تحكم خصائص وصفات الشعوب العربية كالنفاق واللاعقلانية والأعراف المتعلقة بالشرف باعتبارها صفات وقيم تناقض الديمقراطية ولا يخفى على أحد تغلغل الرؤية الاستشراقية والعنصرية التي تتحكم في هذه التحليلات والفرضيات فضلا عن نقاط ضعفها المنطقية والمنهجية فمعظم هذه الدراسات تصر على أن المجتمع العربي يعاني من انقسامات لا يمكن إصلاحها وتصر على وجود عقلية عربية متماثلة تتسم بالجمود والانغلاق وتلقي باللوم على الإسلام باعتباره سببا في غياب الديمقراطية.

في حالات أقل تشددا من المقاربات الاستشراقية يشار إلى الاعتدال باتخاذ مواقف حاسمة مع نبذ العنف على الصعيدين الإيديولوجي النظري والممارسة الساسية العملية وتبني مواقف أكثر تسامحا مع حقوق المرأة، وموضوعة الحريات ومسألة الأقليات وأحيانا الاستعداد للاعتراف بإسرائيل والتصالح مع السياسات الأمريكية ولا شك بأن هذه المسائل شائكة وتتعارض مع جملة من المبادئ المؤسسة للإسلام السياسي إلا أن فرضية الاعتدال الادماج تراهن على تحول الحركات الإسلامية مع الزمن حين الانخراط في الانتخابات الديمقراطية.

تقوم الدينامية المركزية لفرضية الادماج الاعتدال على تحول المنظمات والجماعات السياسية الفاعلة نحو الاعتدال عندما يسمح لها بالمشاركة في عمليات سياسية تنافسية مشروعة في ظل انتخابات ديمقراطية، ومجتمع مدني حر، واحتجاجات قانونية، ومظاهرات وغيرها من سمات الديمقراطية، فالمجموعات المعارضة تلجأ غالبا إلى الاعتدال لما تجلبه النزعة الواقعية من منافع ومكاسب وما يوفره الاعتدال من فرص مؤكدة لجذب أنصار جدد من الناخبين الأمر الذي يؤدي إلى فرص أكبر بالحصول على نصيب أوفر من السلطة.

أحد الأبعاد الأساسية من فرضية الإعتدال الإدماج يتعلق بالسياق المؤسساتي الذي تختار المجموعات المشاركة فيه ففي الوقت الذي يجبر الاستبعاد السياسي المعارضة على تحويل أنشطتها إلى السرية يوفر الاستيعاب السياسي لجهات فاعلة مختلفة سلسلة من الفرص حتى في ظل أنظمة شبه سلطوية قائمة ليس لديها النية والرغبة بالسماح بممارسات تعددية وديمقراطية حقيقية ففي سياق من هذا القبيل تتضمن محفزات الاعتدال تراجعا نسبيا في القمع الذي تمارسه الدولة حين يصبح من الممكن العمل والدفاع عن إصلاحات سياسية محددة بشكل قانوني وعلني بالإضافة إلى إمكانية القيام بتعبئة علنية لقاعدة دعم أوسع ومجال لمناقشة علنية للقضايا إلا أن جملة من التعقيدات سوف تظهر ليس فقط عندما يتم التحكم في المنظومات المؤسساتية من قبل نظام سلطوي ولكن أيضا عندما تكون المؤسسات نفسها في حالة تغير مستمر وتكون قواعد اللعبة السياسية غير مستقرة وعرضة للتلاعب المستمر.

فرضية إلاشتمال الاعتدال في سياقات مختلفة تواجه إشكالا أساسيا يرتبط بمسألة «مفارقة الديمقراطية» وذلك حين تمكّن العملية الديمقراطية جهات فاعلة غير ديمقراطية من استثمار الفجوات للانقلاب على الديمقراطية حيث تدّعي مجموعة التزامها بالعملية الديمقراطية ثم تعود وتتخلى عن مواقفها بعد أن تحصل على نصيب كاف من القوة ديمقراطيا للانقلاب بالكامل على النظام الديمقراطي أو تعمل على تغيير جملة من المبادئ والقواعد التي تضمن ديمومة نفوذها في السلطة فعندما يكون النظام ذاته في حالة من التغير المستمر كما هو الحال في الأوضاع التي تشهدها مسارات ما بعد الثورة قد تضمحل الآليات التي من شأنها ضمان معادلة الاعتدال كشرط للمشاركة ففي سياق التقدم الحقيقي للديمقراطية يتعلق السؤال المتكرر حول الاشتمال السياسي الموسع باحتمال تمكين الانتخابات لمجموعة ما غير ملتزمة بالقواعد الديمقراطية أو بإمكانية أن يسمح النظام الذي يعيش مرحلة تغير لمجموعة ما بخطف عملية تأسيس المؤسسات الجديدة عبر وسائل غير ديمقراطية.