رضوان السيد

 عندما كتب المسرحي الإيطالي لويجي بيراند للو مسرحيته «ست شخصيات تبحث عن مؤلِّف»، كانت فكرتها الرئيسية: ما الذي يُنتج الزعيم؟ هل الدور الذي يقتضيه التاريخ وتقتضيه الظروف؟ أم الجمهور الذي يبحث في الأزمات عن قائد منقذ؟ أم الشخصية الكاريزماتية التي تندفع إلى مقدمة المسرح محفوفة بالطموح الشخصي وبالإحساسات الرسالية؟ ولأنّ المسرحي اليساري كان يكتب بعد الحرب الثانية، حين كان القادة التاريخيون من أمثال هتلر وموسوليني قد تسببوا بكارثة إنسانية كبرى، فقد بدا خصمًا لمسألة «الضرورات التاريخية» التي تُنتج الزعيم رغم ماركسيته. لكنه لم ينسَ أنّ ستالين وفرانكو كانا باقيين، وهذه مشكلة «تاريخية» وإنسانية، كما قال، تجعلنا نبحث عن «الجمهور»، وليس عن الشخصية المتفردة التي يأتي بها التاريخ أو يرغمها على الظهور! فبعد صدور المسرحية بقليل، بدأت ظاهرة زعماء حركات التحرر الوطني في العالم الثالث، من آسيا وأفريقيا وإلى أوروبا البلقانية: من تيتو إلى ماوتسي تونغ ونهرو وسوكارنو وجمال عبد الناصر وسيكوتوري وجوموكيناتا!
كلا المرشحين الأميركيين شخصيةٌ عامة منذ ثلاثة عقود، وإن اختلفت الحرفةُ والميول والتوجهات. فترامب ملياردير منذ الثمانينات من القرن الماضي، وهو ليس مثل المليارديرات البروتستانت أو اليهود «الرساليين» القدامى والجدد، الذين على حواشي غناهم، يصنعون اسمًا بالإنفاق على ترقية التعليم أو مكافحة السرطان أو الإيدز، بل هو حرص منذ البداية بحكم التكوين الشخصي على إبراز النموذج الفج لفكرة النجاح الأميركية الصاعقة: عمارات هائلة، وصفقات معجبة، وقصص نسائية، واختراقات لقوانين الضرائب وللنظام الإداري والسياسي في الولايات والدولة. وقد صنع له ذلك اسمًا لدى العامة، والمهمشين وغير المحبين للمؤسسة والتقاليد، وليس لدى نُخَب المؤسسة والطبقات الوسطى.
أما هيلاري وزوجها بيل، اللذان بدآ صعودهما في مطلع التسعينات، في ولاية أركنساو الصغيرة، فإنهما عملا من ضمن تقاليد «المؤسسة» للظهور. وكان كلاهما متفوقًا في تعليمه، إلى ذكاء مشهود في النموذج البراغماتي الأميركي المعروف، وسير على الحافّة بين المشروع وغير المشروع، مع حرص شديد على التظاهر بمراعاة «تقاليد» النجاح الأميركي، التي تختلط فيها قيم النجاح الشخصي، بممارسات المصلحة العامة والخير العام. وهكذا، فهما بخلاف ترامب ينتميان إلى قيم وتطلعات الطبقات الوسطى، ويحرصان على الإعلان عن ذلك في كل مناسبة. وهو الأمر الذي يجذب إليهما البيض من الفئات الوسطى، وكذلك غير ذوي الأصول الأميركية العريقة مثل السود والهسبانك واليهود.
إنّ الجديد الذي ينبغي تلمس آثاره في الانتخابات الرئاسية الأميركية هو المتغيرات في الجمهور أو لدى الجمهور. فترامب نموذجه معروف. وكذلك كلينتون. أما غير المعروف فهو الفئات الجديدة في الجمهور من الشباب ومن كبار السن. إنّ الذي يجمع هذه الفئات الجديدة المتذرّرة ليس القيم المعيَّنة، بل كراهية الـ«establishment» وتقاليد المؤسسة، فكبار السن يرون أنّ المؤسسة خرجت على التقاليد المحترمة، وصغار السن يرون أنّ تقاليد النظام الأميركي تهمّشهم ولا تراعي مصالحهم. وهذه الظاهرة، ظاهرة الخروج على التقليد تظهر في أوروبا، كما ظهرت في الولايات المتحدة. ويسميها الباحثون: الظاهرة الشعبوية، التي يعتبرونها غوغائية وغير عقلانية. ويستفيد منها بشكل رئيسي التيارات اليمينية المتطرفة، لكن يستفيد منها أيضًا اليساريون الجدد وتيارات الخُضر ودُعاة السلام بين الأعراق، وإنْ بشكلٍ أقلّ.
يبدو ترامب أقرب لميول الناخبين الجدد. وتبدو كلينتون أقرب لميول المؤسسة وتقاليد النظام الأميركي بعد الحرب الثانية. ولذلك فإنّ الترجيحات متناقضة، لكنّ النتائج أيًا يكن الناجح ستكون متقاربة. إنما في الحالتين ستكون تأثيراتها على العالم، أكبر من تأثيراتها في الولايات المتحدة، التي لن تتزعزع قوانينها كما لم تتزعزع بظهور الإنجيليات الجديدة.