وليد أبي مرشد

 لا يسع المتتبع للمناظرات الانتخابية بين مرشحي الرئاسة الأميركية، هيلاري كلينتون ودونالد ترامب، إلا أن يترحم على عصر الحرب الباردة.
آنذاك كانت سياسة الولايات المتحدة الخارجية واضحة وضوح الشمس، هدفها القومي والدولي «احتواء» الاتحاد السوفياتي. وهذا الهدف المحوري فرض التجانس على دبلوماسية الولايات المتحدة الأميركية وعلاقاتها الدولية كما شكل الدعامة الداخلية لكل مقرراتها، حتى وإن كانت التدخل عسكريًا في فيتنام أو الإنفاق على مشروع مكلف لغزو القمر.
إبان عصر الحرب الباردة لم يكن أي من حلفاء الولايات المتحدة أو أصدقائها يشكك في الهدف الدولي لدبلوماسيتها ولا موجباته عليهم. أما اليوم فالشكوك في أهداف الدبلوماسية الأميركية، وحتى توجهاتها، تساور أقرب حلفائها وتقض مضجع كثير من أصدقائها، خصوصًا بعد أن تحولت إلى خلاف علني بين حزبيها الرئيسيين.

على سبيل المثال لا الحصر، أكدت مرشحة الحزب الديمقراطي، هيلاري كلينتون، قي مناظرتها الأولى مع دونالد ترامب، الالتزام بسياسة حزبها حيال روسيا - والتي لا تختلف كثيرًا عن نهج سلفها الرئيس باراك أوباما. أما منافسها، مرشح الحزب الجمهوري، فقد خرج عن المألوف في قاموس حزبه وموقفه التقليدي من روسيا.
الكل يذكر أن مرشح الحزب الجمهوري للرئاسة الأميركية في انتخابات عام 2012، مت رومني، انتقد بحدة ما وصفه برغبة أوباما «الساذجة» إعادة تصحيح علاقة واشنطن بموسكو وذهب إلى حد اتهامه بالوقوع ضحية خدعة عميل سابق لجهاز للاستخبارات الروسية (كي جي بي).
أما اليوم فلم يتردد مرشح الحزب نفسه، دونالد ترامب، في الإعراب عن إعجابه بشخصية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وزعامته وعن التعهد بتوثيق علاقة أميركا بروسيا.
بمنظور حدثي، لا يرجع ما يمكن وصفه بـ«التباين» في المواقف الأميركية من روسيا إلى عهد الرئيس أوباما بقدر ما يعود إلى بروز تساؤلات، داخل الولايات المتحدة وخارجها، حول «رسالة» أميركا في العالم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. ويبدو لافتًا في هذا السياق أن يشكو بعض المسؤولين الأوروبيين من «تراخي» التزامات واشنطن بحلف شمال الأطلسي بعد زوال الخطر السوفياتي. (أظهر استطلاع للرأي أجراه قبل نحو السنة مركز «بيو» للبحوث في ثمانية من دول الحلف أن مواطني الولايات المتحدة وكندا فقط، أبدوا استعدادهم لخوض حرب إذا دعاهم الحلف للمشاركة بها).
والظاهر أن الأوروبيين لا يغذون وحدهم الشكوك في أهداف الولايات المتحدة، ففي الشرق الأوسط، وفي أعقاب تلكؤ واشنطن في التعامل مع الأزمة السورية، بلغت هذه الشكوك حد التساؤل عما إذا كان لواشنطن ثمة دبلوماسية شرق أوسطية أم لا.

كان متوقعًا أن تتراجع حاجة واشنطن إلى حلفائها وأصدقائها في الخارج مع زوال الخطر السوفياتي عليها. ولكن العقدين المنقضيين على انهيار المنظومة السوفياتية أظهرا أن التحدي الأبرز لزعامة أميركا العالمية لم يكن النظام الروسي بحد ذاته بقدر ما كان الدولة الروسية نفسها. وهذا ما يحاول الرئيس فلاديمير بوتين إبلاغه اليوم لواشنطن: انهيار النظام الروسي لا يعني انهيار الدولة الروسية، فروسيا لا تزال دولة عظمى لها مثل الولايات المتحدة مصالح خارجية حيوية تحرص على حمايتها.
التزم الرئيس بوتين، طوال عهوده، إبلاغ واشنطن هذه الرسالة بشكل أو بآخر. أكدها في جورجيا وأبخازيا وشبه جزيرة القرم وشرق أوكرانيا وأخيرًا، لا آخرًا، سوريا، وتوجها في يوليو (تموز) الماضي بالتهديد بشن حرب على الغرب ردًا على مضاعفة حلف الأطلسي عدد قواته المنشورة في أوروبا الشرقية.
من هنا يبدو لافتًا أن لا يقابل التحدي الروسي المتنامي من جديد بإجماع الحزبين الأميركيين على مواجهته بحزم، وحتى في حال اعتبار الرئيس أوباما مبررًا في رفضه استمرار بلاده بلعب دور الشرطي العالمي، فمجرد أن يكون البديل المهيأ للعب هذا الدور بوتين نفسه يحتم إعادة النظر بهذا الموقف.