محمد علي فرحات

«البلديات المتحدة الأميركية» برئاسة ترامب

أميركا «قائدة العالم» طالما كانت تغطي صورة شعبها الذي يعاني مثل أي شعب آخر، على رغم فلسفة العمل التي يعتنقها الأميركيون وإحساسهم الفطري بالمبادرة الذي يدفع إلى اعتماد مشاريع خاصة وتفادي وظيفة تعلُّم الكسل، وتهدّد صاحبها بالبطالة في أي لحظة.

دونالد ترامب ينسب إلى نفسه التعبير عن تلك الصورة المغطاة، يكشفها، يتكلم باسم أبطالها المحليين القليلي المعرفة بشؤون العالم، منتصراً على زعامات الحزب الجمهوري حين أرغمهم على ترشيحه باسم الحزب، وكانت تلك العلامة الأولى المؤدية إلى نجاحه في انتخابات الرئاسة. أما حواراته «الزجلية» مع غريمته هيلاري كلينتون فكانت إشارات تلهب حماسة مؤيديه وتزيدهم عدداً، على رغم ما فيها من شتائم ومعلومات خاطئة وعنصرية فاقعة تشبه كلام العمال في استراحتهم حين يتبادلون لعن الآباء والأجداد والأصول.

كانت انتخابات بلدية أكثر منها انتخابات رئاسة للدولة الأولى في العالم، بل إن نظرة خاطفة على ترامب تراه رئيساً للبلديات الأميركية المتحدة، وليس للولايات المتحدة. وليس في الأمر استهانة، فترامب يأتي من عالم الأعمال لا من عالم السياسة الذي يكرهه، بما فيه من ثقافة تعقيد وكلام يدمج الإعلان بالكتمان وعيش يعتمد اللعب على القانون، ومراتب عليا تقود العالم السفلي الذي يشغله بسطاء يفرحون بالتضحية.

ويمكن فهم ترامب بصفته رئيساً للبلديات المتحدة حين نتذكر ما لا يراه السائح في أميركا (سبق أن عبرتُ طريقاً في الناحية الأخرى من تلة جورجتاون في واشنطن العاصمة وأدهشتني الحفر الكثيرة التي تذكّر بطرقات القرى في بلاد العالم الثالث، ورأيت بيوتاً بلا سكان في ضواحي ديترويت معروضة بأبخس الأثمان أثناء الانهيار العقاري في تسعينات القرن الماضي). لذلك ولغيره يعطي ترامب الأولوية لتجديد البنى التحتية كخطوط الكهرباء والمياه والسكة الحديد والسدود التي يقول خبراء إن أكثرها مهدد بالانهيار، وهذا التجديد واحد من سبل تعزيز فرص العمل والاستثمار التي يعد بها ترامب.

سينجح في تجديد البنية التحتية لبلاده، وربما يكتفي بهذا البند من بين وعوده في 22 من الشهر الماضي بإنجازات الأيام المئة الأولى من عهده الذي يبدأ في 20 كانون الثاني (يناير) المقبل، فبقية الوعود تتصل بعلاقات إقليمية ودولية تتخطى الشأن المحلي الذي يبرع فيه ترامب براعته في مجال العقارات. إن انسحاب أميركا من مسؤولياتها الدولية راود ويراود الكثيرين في الولايات المتحدة التي يمكنها بمساحتها وديموغرافيتها وثرواتها الطبيعية أن تشكل مجالاً مكتفياً للإنتاج والاستهلاك، لكن الانسحاب هذا تحول إلى حلم مع التطور المتسارع لوسائل الاتصال وتجذّر العولمة ذات الأصول الأميركية فكراً ووسائل وأهدافاً. وسبق أن جُذِبت أميركا إلى مشكلات أوروبا في الحربين العالميتين الأولى والثانية وإلى مشكلات الجوار الأوروبي في حرب السويس عام 1956 حين اضطرت إلى ردع العدوان الثلاثي البريطاني الفرنسي الإسرائيلي والحلول محل لندن وباريس واجتراح فكرة الاستعمار الجديد الذي مارسته ولا تزال.

لن يستطيع ترامب وحزبه الجمهوري المتهافت أن يرسما سياسة جديدة خارج الحدود بعقلية الإنماء البلدي وتعظيم الخدمة الشعبية تحت شعار وطني تقليدي. المطلوب نقلة شجاعة عجزت عنها النخبة الديموقراطية والجمهورية، والنقلة تبدأ من اعتراف بسقوط وحدانية قيادة العالم وثنائيتها القائمة على الحرب الباردة، إلى صيغة تعاون دولي يعطي منظمة الأمم المتحدة دوراً أكبر، بما يعني تجديد هذه «الحكومة العالمية» التي تعمل بذهنية مطالع الخمسينات.

وإذا كان ترامب تخلّى عن تشنُّجاته العنصرية، فهو مدعو إلى تطبيق ما أعلنه بإيجاز بعد فوزه، باعتماد الشراكة بين الدول بدل العداء، والتعامل بعدالة. وأنه سيكون رئيساً لجميع الأميركيين، ما يعني التخلي عن التشنُّج العرقي والديني لمصلحة هوية أميركا بلد المهاجرين المنفتح.

قد تبدو أميركا للوهلة الأولى منسحبة إلى الداخل على الطريقة الترامبية، لكن ذلك لا يعدو كونه شعاراً لتجديد البنية التحتية، أما سياسته الدولية فيتوقع أن تبدأ بتجديد العلاقة مع أوروبا على قاعدة التصالح مع روسيا وربما التحالف، بما يحدّ من مهمات الحلف الأطلسي وربما تعديلها لتخفيف التزامات واشنطن المالية تجاه القارة العجوز. وإذا «انضمت» روسيا إلى أوروبا وأميركا، تترشح الصين للخصومة وربما للعداء. أما نحن العرب والمسلمين ومعنا إسرائيل فنبقى أسرى حروبنا الدهرية التي يخفف الكبار من أخطارها إذا رأوا ذلك ضرورياً.