عثمان ميرغني 

 سنقضي وقتًا طويلاً في محاولة فهم وتحليل شخصية الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب، وتركيبة إدارته المقبلة، وهو بلا شك أمر بالغ الأهمية، وإن اختلفت الآراء والقراءات؛ ذلك أن فهم الرجل وطريقة تفكيره، وتحليل مواقفه، وتمحيص آراء وتوجهات الشخصيات المرشحة لدخول إدارته، سيكون المدخل للتعرف على سياساته المقبلة.
ترامب لن يكون شخصية سهلة الفهم بسبب مزاجه المتقلب، وعدم خبرته في مجال السياسة وتعقيداتها، وقلة فهمه لكثير من القضايا الدولية وتشابكاتها. ويزداد الأمر صعوبة لأن الرجل خلال الأسبوعين اللذين أعقبا انتخابه، تراجع عن عدد من وعوده وشعاراته الانتخابية، وبدل بعض مواقفه، ليضع المراقبين في حيرة إزاء السياسات التي سيتمسك بها وتلك التي يمكن أن يبدل فيها أو يتنصل منها.
في مقابلته الطويلة أول من أمس مع صحيفة «نيويورك تايمز»، فاجأ ترامب الصحافيين بعدد من المواقف، وبتراجعه عن بعض شعاراته ووعوده الانتخابية. المفاجأة التي تعنينا في كلامه الذي تركز في معظمه على القضايا الداخلية، ومسألة التضارب في المصالح بين موقعه كرئيس منتخب وبين أعماله ومصالحه التجارية، هي قوله إنه «يحب أن يكون الشخص الذي يحقق السلام بين إسرائيل والفلسطينيين». فالتوقعات كانت ترجح أن الشرق الأوسط لن يكون في أولوية اهتماماته، إلا من زاوية حرب الإرهاب.
ترامب منذ إعلانه عن ترشحه للرئاسة، قدم التزامًا مطلقًا بأمن إسرائيل وبالعلاقة الوثيقة بينها وبين الولايات المتحدة، وهو أمر درج عليه غالبية السياسيين الأميركيين. لكنه أثار المخاوف والقلق بإعلان عزمه على نقل مقر السفارة الأميركية إلى القدس الشرقية والاعتراف بالقدس «عاصمة موحدة للدولة اليهودية»، وذلك في موقف معارض لسياسات الإدارات السابقة وللقرارات الدولية. على الرغم من ذلك، فإنه بدا واثقًا في مقابلته أول من أمس من أنه يريد العمل على تحقيق السلام، قائلاً إن ذلك سيكون إنجازًا كبيرًا، وإن لديه سببًا يدفعه للاعتقاد بأنه يمكن أن يحقق ذلك على الرغم من أن كثيرين حذروه من أنه لن ينجح في الأمر، على حد تعبيره.
اللافت أن مدخل ترامب للحديث عن هذا الموضوع كان في سياق رده على سؤال حول ما إذا كان يريد إعطاء دور في إدارته المقبلة لجاريد كوشنر زوج ابنته إيفانكا. فبعد أن أشاد بكوشنر وبفهمه للمنطقة جيدًا وبمعرفته للاعبين هناك (جاريد يهودي وقد اعتنقت إيفانكا الديانة اليهودية بعد ارتباطها به)، قال إنه سيكون جيدًا في العمل في هذا الجانب، وهو ما فهم منه أنه يريد تعيينه مبعوثًا خاصًا في موضوع السلام.
ترامب قد يحاول بالطبع القيام بجهد لتحقيق السلام كما حاول رؤساء أميركيون سابقون، وهو أمر مطلوب، لكن المشكلة تكمن في أنه لا يرى تضاربًا بين موقفه من القدس وبين أي مسعى لتحقيق السلام. تغيير وضع القدس سيكون بلا شك عقبة كبرى أمام مساعي السلام، بل قد يلهب المنطقة والعالم الإسلامي كله، ويقلب جهود محاربة الإرهاب رأسًا على عقب، لأنه سيصبح ورقة رابحة تستخدمها منظمات الإرهاب في دعاياتها وفي جهودها لتجنيد المتطوعين.
في حديثه عن سوريا خلال المقابلة الصحافية، بدا ترامب متمسكًا بموقفه الرافض لأي دعوة للتدخل عسكريًا بأي شكل في سوريا، وسخر في ذلك من أعضاء الكونغرس الذين ينادون بالتدخل، مثل السناتور ليندسي غراهام، قائلاً إن هذا «يعني أن نهاجم روسيا وأن نهاجم إيران.. وماذا سنجني من ذلك؟»، بدلاً من ذلك، أكد موقفه السابق في أنه يريد التعاون مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لإيجاد حل للأزمة السورية، وكذلك في الحرب على «داعش» التي يرى أنها «إضافة إلى خطورتها، فإنها مكلفة جدًا»، وهو لا يريد، كما قال سابقًا، إنفاق تريليونات من الدولارات كما حدث في حربي أفغانستان والعراق.
المثير أن ترامب لم يرد أن يكون كل حديثه عن رؤيته للأزمة في سوريا منشورًا؛ إذ طلب من مسؤولي وصحافيي «نيويورك تايمز» في جزء معين من الكلام وقف تسجيله وعدم نشره. من سياقات مقابلات قديمة لترامب أثناء الحملة الانتخابية يمكن للمرء أن يستنتج أنه يرى أن أي تدخل عسكري لأميركا في الحرب السورية سيكون ورطة مكلفة، وبالتالي فإنه لن يقدم على ذلك وسيترك «الورطة» للآخرين خصوصًا روسيا. كما أنه يعارض تسليح المعارضة، ويرى أن نظام بشار الأسد يحارب «داعش»، ولا يمانع في بقائه، وقد سبق له أن قال في هذا الإطار إن تجارب إطاحة الأنظمة سواء في العراق وليبيا أدت إلى أوضاع سيئة، لا تشجع على تكرارها.
ترامب يبقى لغزًا حتى هذه اللحظة، لكن تصريحاته وبعض التعيينات والترشيحات لإدارته المقبلة تبقى مثيرة للقلق، خصوصًا بالنظر إلى المواقف المتطرفة لبعض مستشاريه والمحيطين به الذين تجمع بينهم الإسلاموفوبيا، والنظرة العدائية للمنطقة، والانعزالية إزاء العالم، وهو ما يستدعي الحذر.. حتى إشعار آخر.