عبدالرحمن الطريري

ما من شك أن كل إنسان يعشق الحرية التي تخلصه من القيود، والموانع التي تعوقه عن ممارسة ما يرغب في القيام به لو قدر له ذلك. عشق الحرية ليس مقتصرا على الإنسان، بل إن الكائنات الحية تعشقها، فالطير يحاول الخروج من قفصه، وكذلك الحصان يحاول التخلص من مربطه، وحظيرته، فالجلوس في مكان واحد لفترة طويلة يصيب الإنسان بالملل، لما في ذلك من رتابة العيش وقلة الحركة.

وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة لحرية الحركة الجسمية، فكيف بحرية العقل، خاصة في قضية التعبير عن الرأي في القضايا والمواضيع التي يرى المرء فيها رأيا يسدد ما اعوجَّ، أو ما يعتقد صلاحه، ومساهمته في علاج مشكلة من المشكلات، خاصة ما له علاقة بالشأن العام الذي يشترك الناس في إيجابياته، وسلبياته، ولا تقتصر آثاره على فئة دون أخرى. أدرك الغرب أهمية الحرية في الرأي خاصة ما له علاقة بالشأن العام الذي يشمل الاقتصاد والسياسة وقضايا التنمية، إضافة إلى سلامة المجتمع في بنائه الثقافي والفكري، والمحافظة على القيم التي تضمن تماسك المجتمع ومتانته في وجه التحديات التي تواجهه.

الغرب أدرك أهمية الحرية في بناء المجتمع، لذا أوجد الآليات التي تضمن حسن مسيرة المجتمع، ومن أهم الآليات الإعلام بوسائله المقروءة، والمسموعة، والمرئية، إضافة إلى وسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت متاحة للاستخدام، دون إذن من أحد، ودون إذن الرقيب الذي يسمح، أو لا يسمح بنشر المادة الإعلامية، حتى تحول الفضاء الإلكتروني إلى ميدان عام مفتوح لكل الناس بجميع الفئات، والثقافات، واللغات. ومع هذه المساحة الواسعة في الفضاء الإعلامي إلا أن ازدواجية المعايير واضحة، إذ لا يمكن تناول السامية في الإعلام، ومن يتجرأ على ذلك يحاكم ويجرم حتى يصل الأمر إلى طرده من عمله كما حدث لبعض الإعلاميين، والغريب في الأمر أن ذم المقدسات الأخرى وتحديدا الإسلام في رموزه وطقوسه مباح ويكفي أن نسترجع صحيفة «شارلي» الفرنسية، وكذلك الصحف الدنماركية التي نشرت رسوما مسيئة للرسول ـــ صلى الله عليه وسلم.

من الآليات المنظمة لإبداء الرأي المجالس النيابية التي يتم اختيار أعضائها بالاقتراع الحر، والمباشر بهدف تمثيل جميع الشرائح الاجتماعية بخلفياتها المتنوعة، وتوجهاتها المتعددة، وربما المتنافرة، ومع ذلك تمتزج الرؤى كافة، مهما تعددت في وعاء واحد، ليتم نقاشها، وتمحيصها، ومن ثم اختيار ما يعتقد أنه الأفضل في خدمة المجتمع، والوطن، ليس بصورة وقتية فحسب، بل على المدى البعيد.

 من آليات التعبير عن الرأي الاحتجاج المباشر إزاء قرار، أو قضية من القضايا كما حدث في حرب فيتنام، حيث خرج الشعب الأمريكي معبرا عن غضبه لما آلت إليه الحرب من خسائر بشرية في الجنود الأمريكيين، ولما سببته من خسائر مادية جسيمة أثرت في الاقتصاد الأمريكي، ما اضطر الحكومة الأمريكية إلى إيقاف حربها العدوانية على فيتنام.

في ليلة من الليالي، وفي مدينة نيويورك كانت الشوارع المحيطة بالفندق الذي أسكنه مكتظة بالناس، المتظاهرين، والأجهزة الأمنية، والأصوات العالية، وكان الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب يسكن في الفندق المقابل، وكنت أشاهد من داخل الفندق الذي أسكنه الجموع، وهي تحاول اقتحام مدخل الفندق الذي يسكنه الرئيس، والأجهزة الأمنية تمنعهم، وحيث لا أعرف سبب التجمهر قادني فضولي بشأن أسباب التظاهر لسؤال العاملين في الفندق، إذ تبين أن السبب كان التقشف بشأن نفقات علاج المصابين بمرض الإيدز. يذكرني ذلك المشهد، بما حدث للخليفة عمر بن الخطاب حين قاطعته امرأة وهو على المنبر وقال مقولته المشهورة «أصابت امرأة وأخطأ عمر»، وكذلك حين قاطعه الرجل محتجا على الثوب الذي يرتديه، وأنه أخذ من بيت المال دون وجه حق، حتى أبان عمر أن الزيادة في الثوب كانت من ابنه عبد الله.

كما لا ننسى مقولة عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص- رضي الله عنهما- عندما اشتكاه القبطي، التي خلدها التاريخ "متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا"، ولذا يتبين لنا أن الإيمان بحرية الرأي وإيجاد القنوات المنظمة له، التي لا تعوق صاحبه يمثل بابا من أبواب الخير في المجتمع يتيح الفرص للجميع للمشاركة في البناء، من خلال تصويب القرارات، والحد من سلوكيات الاستئثار بالسلطة، والمال العام، إضافة إلى شعور الجميع بأن الساحة مفتوحة للجميع، ولكل من يعمل في صلاح وإصلاح المجتمع.

الحرية الفردية في الغرب بلغت مستوى لا يمكن تصوره في إيذائها، وخدشها للذوق العام، وفي تهميشها لما جاءت به الأديان والعقائد، وما اعتاد عليه الناس سواء في اللباس، أو زواج المثليين الذي أقر من أعلى المحاكم في الغرب، كما في أمريكا، على اعتبار أنه حرية شخصية في اختيار شريك الحياة بغض النظر عن جنسه، ومن المؤسف أن بعض الدول في عالمنا العربي أخذت ما يخص الحرية الفردية بشكل مبتذل، لكنها تركت الحرية ذات القيمة في بناء المجتمع كحرية الرأي والنقد فيما يخص الشؤون العامة، ولذا تعاني في تنميتها وأخذها بأسباب القوة.

المشكلة أن الحرية عندما تتجاوز الحدود، وتمتهن القيم، وتخدش الحياء، وتتعدى على حقوق الآخرين لا تكون حرية، بل اعتداء، ولذا فإن ما نشاهده من حروب يشنها الغرب على شعوب ومجتمعات آمنة تتناقض مع ما يتباهى به من قيم الحرية التي يدير بها شؤونه، لكنه يتجاهل الحرية وقيمها في تعامله مع الآخر، إذ يسعى لفرض قيمه، ونمط عيشه على الآخرين، وهذا كما أعتقد يعود إلى الشعور المفرط بالحرية، والحرية المطلقة التي لا يحدها ضمير، ولا وازع أخلاقي ولا قانون، إضافة لامتلاكه القوة الغاشمة التي تجعل صاحبها يتمادى في ممارساته بوحي من شعور الحرية الذي أوصله إلى مرحلة الطغيان.