سمير عطا الله

 ربما تكون باريس أجمل مدن العالم في نظر البعض. ربما هي فيينا أو روما أو ميونيخ أو البندقية، فالجمال، كما يقولون، في عين الرائي. عندما احتل النازيون باريس في الحرب العالمية الثانية، حَرصَ قائد الاحتلال على ألاّ يُمس جمال المدينة التي تحت إمرته وفي حمايته. وقبل نهاية الحرب بقليل، أصدر إليه هتلر الأوامر بنسف المدينة وجمالاتها، غير أنه تمنّع عن ذلك معرّضًا نفسه لحكم الإعدام.
وُضِعت مؤلفات كثيرة عن ذلك الحدث، أشهرها كتاب (وفيلم) بعنوان «باريس هل تحترق؟». ثمة شيء أجمل من هذا في رأيي لم يُكتب عنه الكثير. عندما اشتبك الألمان والبريطانيون للسيطرة على مدينة فلورنسا، حرص الفريقان المتقاتلان، على عدم إلحاق الضرر بمعالم المدينة التاريخية الرائعة. طبعًا، لم يخلُ الأمر من بعض الخراب في الآثار التي ضمّتها عاصمة عصر النهضة الأوروبية، ولكن الفريقين كانا ينظران إلى الناحية الأخرى، لكي لا تصيب المدافع معالم الفنون.
عندما قرر الأمير سلطان بن سلمان قبل سنوات السفر مع الآثار التاريخية السعودية، كان متحف فلورنسا المحطة الأكثر روعة في تلك الجولة حول العالم. ومن تلة فلورنسا حيث المتحف، وقف الأمير سلطان يشرح لنا ذاك التناقض الشهير، عندما قرر المقاتلون الألمان والبريطانيون أن يضبطوا أنفسهم ضمن أقصى حد ممكن من التحضّر، رغم فظاعة الحرب ونهم التدمير.
أتذكر تلك الرحلة المؤْنِسة مع الرجل الذي يعمل منذ نحو ربع قرن على البحث عن التراث السعودي وحفظه، كلما شاهدنا أمام أعيننا التوحش الذي يعامل به التاريخ العربي، من بغداد إلى تدمر، وأخيرًا إلى حلب، تلك المدينة التي مرّت بها العصور والأزمان وتركت فوق أرضها القلاع الخالدة ومعالم التاريخ التي لا تُمحى.
أن يعفو جنرال نازي عن جماليات باريس أمر شديد الأهمية. أما أن يتفق المتحاربون في عز القتال بين النازية والحلفاء على الحفاظ على جماليات فلورنسا، فمسألة أكثر من عظيمة. قد يفهم المرء، إذا تعوَّد على نفسية الإبادة والجرائم الجماعية، أن يفتك الإنسان كعادته بالإنسان، أما أن يفتك بشواهد التاريخ وآثار الفنون وروائع الجماليات، فجريمة لا تُغتفر ولا تُفهم. أعادت لندن بناء الحجارة التي دمّرها هتلر، حجرًا حجرًا، وأعاد الألمان بناء المباني التي دمّرها الحلفاء، حصوة حصوة، ولوحة لوحة. وفتك الإسبان بروائعهم خلال الحرب الأهلية، ثم أعادوها كما كانت تمامًا. لا نعرف من سيُعيد بناء حلب وإقامتها من الرماد المتوحش ونفض الغبار عن المدافن الجماعية التي جاء فلاديمير بوتين لإقامتها فوق صدر سوريا إلى الأبد. كنا نعتقد أن المتقاتلين، خصوصًا من أهل المدينة، سوف يرأفون بالقربى وحسن الجوار وزمن الرفاهية والازدهار والوحدة الجميلة في تلك المدينة الرائعة، لكن الأرجح أن فلورنسا وحدها ستبقى في التاريخ نموذج المدن التي اتفق المتحاربون على حمايتها من ضَراوة القتال وتوحش السيطرة. عنوان ناصع واحد في برك الدماء والتوحش.