سري حسان 

إذا كنتَ من «الصُم والبُكم»، فلا بأس. يمكنك الذهاب إلى المسرح وتصعد إلى الخشبة وتشارك في التمثيل. أما إذا لم تتوافر لديك مؤهلات الصعود، فلا بأس أيضاً. يمكنك أن تجلس في الصالة وتشاهد العرض المسرحي الذي سيقدمه أقرانك مع غيرهم من المتكلمين، وتأكَّد أن العرض سيصل إليك كما سيصل إلى غيرك ممن لم يحرموا نعمتي السمع والنطق.

هكذا كان التحدي الأول من نوعه بالنسبة إلى المسرح المصري. عرضٌ يشارك فيه ممثلون لديهم إعاقات سمعية وكلامية مع غيرهم ممن لم تلحق بهم الإعاقة. وتكمن مغامرة العرض في أنه يعتمد لغتي الكلام والإشارة، وهو ليس من تلك العروض الحركية التي يكون أمرُها أسهل حال إشراك ممثلين من الصم والبكم في أدائها. هي ليست المرة الأولى التي يلتفت فيها المسرح المصري إلى أصحاب الإعاقة، فثمة تجارب سابقة وإن لم تكن مع الصم والبكم. فهناك فرقة لفاقدي البصر، وأخرى للمتوحدين وأصحاب الإعاقات الذهنية والحركية، وهي فرقة «الشَكمَجيَّة» التي أسَّستها المخرجة أميرة شوقي في إطار سعيها إلى دمج ابنها المصاب بالتوحد مع الأصحاء وكذلك الذين لديهم إعاقات حركية أو ذهنية. ولكن ظلت العروض التي تقدمها هذه الفرقة ومثيلاتها وسيلة علاج وهدفاً إنسانياً واجتماعياً أكثر من كونها عروضاً فنية نتعامل معها بحسابات الفن الدقيقة.

الوضع كان مختلفاً مع عرض «العطر» الذي كتبه وأخرجه محمد علام، واضعاً في حساباته أنه يقدم عرضاً على مسرح «الطليعة» القاهري الذي تتسم عروضه بنزعة تجريبية وتسعى إلى مخاطبة جمهور نوعي. ولأن الأمر كذلك، فقد كان على المخرج أن يصطحب معه في مغامرته أدوات الفن ويبذل جهداً مضاعفاً في توظيف مواهب ممثليه من الصم والبكم وتضفيرها بمواهب غيرهم من المتكلمين، ليخرج في النهاية بهذا المزيج الكلامي - الإشاري، فضلاً عن الصورة التي هي عماد المسرح، من دون هفوات تضع ممثليه في حرج. لا بد إذاً من اختيار موضوع «آمن»، هكذا تدور فكرة العرض حول قضايا الصم والبكم ومعاناتهم مع عالم المتكلمين والمفارقات التي تشهدها حياتهم.

وإمعاناً في التحدي والمغامرة، لم يثبت المخرج كلاً في مكانه، أو يعمل على جعل الحركة في أضيق نطاق، بل أشعَل الخشبة بالحركة، وعلى خلفية ديكور مرن، إطارُه ثابتٌ وهو يمثل قاعة عرض مسرحي، و»بانوهات» عدة يحركها الممثلون تبعاً للمشهد. واستغل المخرج كلَّ ركنٍ على الخشبة وقدَّم استعراضات وأغنيات، بعضها أدَّاه الصم والبكم ممن تدربوا على نطق بعض الكلمات أو حتى أجزاء منها.

كما ألحق بالعرض فيلماً روائياً قصيراً يتناول قصة حب بين فتاة صمّاء وبكماء وشاب طبيعي، وعرض على شاشة في البانوراما الخلفية بالتوازي مع العرض المسرحي من دون أن يشوش أحدهما على الآخر. ففي فترات صمت العرض المسرحي، المبررة فنياً، يُعرض جزء من الفيلم، ثم يستكمل في فترات صمت لاحقة، وهكذا.

 

مسرح داخل المسرح

اهتدى المخرج إلى صيغة «المسرح داخل المسرح» التي كانت الأنسب والأكثر مرونة إذ أتاحت تناول مواضيع لا رابط بينها سوى ذلك الخيط الدرامي الذي تنطلق منه وتعود إليه، ألا وهو مشاكل الصم والبكم. هذا الشكل المرِن أتاح للمخرج، أيضاً، استعراض مواهب الصم والبكم في التمثيل والأداء الحركي والغناء، كما أتاح تقديم مطالبهم إلى المجتمع، وحتى نصائحهم إلى الأمهات ليتجنبن إصابة أولادهن بالإعاقة.

كل ذلك مُرِّر في شكل فني ومن خلال مواقف اختيرت بعناية، وليس في شكل مباشر أو تلقيني يُضجر المشاهد. واستطاع المخرج تحقيق توازن دقيق بين الممثلين المتكلمين وأولئك الصامتين حتى بدا أن كفتي الميزان متساويتان تماماً، وأن هذا ممثل وذاك ممثل، والفيصل كيف يستطيع المخرج استنطاق طاقة هذا وطاقة ذاك. هكذا، شعر المشاهد بأنه أمام عرض مسرحي اكتملت عناصره وتضافرت، لا أمام حفلة خيرية لكسب التعاطف مع الصم والبكم.

كيف وصلت لغة الكلام إلى المشاهدين من ذوي الحاجات الخاصة، ولغة الإشارة إلى غيرهم في صالة العرض؟ جرى ذلك بواسطة الممثلين أنفسهم وبالتبادل بينهم. فالمتكلمون الذين تدربوا على فهم لغة الإشارة يتولون ترجمتها، والصم والبكم الذين قرأوا حوارات المتكلمين، يترجمونها إلى لغة إشارة، وهكذا. لكن ذلك لم يتم في شكل آلي أو بطريقة تؤثر على صفاء المشهد وتدفقه وإنما بسلاسة ومن خلال حيل فنية لعبت الإضاءة في غالبيتها دور البطولة.

عرض «العطر» ضربة بداية موفقة، فما الذي يمكن لهذا الفريق تقديمه بعده؟ من الصعب بالتأكيد أن يقدم عرضاً آخر يتناول المشاكل نفسها. المخرج فطن إلى ذلك، وأعلن أن الفريق بصدد التدرّب على عرض آخر لا علاقة له بقضايا الصم والبكم. فهذه المرة سيقدم ملحمة «الزير سالم».