عادل درويش 

 اليسار يسعى لعكس نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية التي جاءت بما لا تشتهي سفينتهم؛ ولشطب 17 مليونًا و400 صوت بريطاني بالخروج من الاتحاد الأوروبي (16 مليونًا فقط صوتوا بالبقاء) لأن بضعة آلاف مثقف يساري «حنجوري» نصبوا أنفسهم أوصياء على بقية الستين مليونا الذين لم يبلغوا سن الرشد السياسي.
اليسار يلوم وسائل التواصل الاجتماعي التي ضللت الشعب الذي لم يبلغ سن الرشد بعد. ما يسميه العرب «الإعلام»، أي الوسائل الصحافية والشبكات التقليدية، توقعت فوز هيلاري كلينتون وبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي بفتوى محرريها موجهين مستهلكيهم (قراءً ومشاهدين) نحوها. الشبكات الصحافية عبرت عن مؤسسة حاكمة وعولمة أفقرت الناس فحولوا وسائل التواصل الاجتماعي إلى وقود ثورة تجاهلتها عنجهية المثقفين.
الشبكات الصحافية اليسارية جاءت بتهمة جديدة: «اليمين» (المقصود ملايين البسطاء دون سن الرشد السياسي) وقع ضحية أخبار مفبركة عن السيدة كلينتون وعن الاتحاد الأوروبي فصوت للانطباع وليس للحقائق. جاءوا باسم جديد post-truth politics المحيط السياسي في عصر تجاوز الحقائق (ترجمة المفهوم لا حرفيًا). دخل قاموس أكسفورد كتعبير إنجليزي متداول بمعنى «الانطباع الذي تتركه عوامل عاطفية أو ما شابهها كبديل عن الحقائق».
الانطباع impression لدى الناخب (قناعته أن سياسة معينة لمصلحته، خاصة الاقتصادية بصرف النظر عن إمكانية تطبيقها) ظاهرة قديمة؛ فلا يمتلك الناخب العادي أدوات مستقلة مؤكدة لاكتشاف الأرقام والمعلومات الحقيقية بنفسه.
توقعنا أن تسهل وسائل بحث عصر المعلوماتية قدرة المواطن العادي على الحصول على الحقائق مستقلاً عن «فلتر» تحتكره شبكات عملاقة مثل «بي بي سي» و«سي إن إن». أبحر الناخب العادي في محيطات معلومات التواصل الاجتماعي بلا قبطان (فلتر) الشبكات فخرج بسفينته من الاتحاد الأوروبي ومن حظيرة كلينتون إلى بحيرة دونالد ترامب.
الـpost-truth politics - يجادل اليساريون - خلق انطباعًا على وسائل التواصل الاجتماعي ووجه الصوت الانتخابي في طريق لم يمر بـ«فلتر» توصيل المعلومات الذي احتكره مثقفو اليسار «الحنجوري» تقليديًا في الشبكات الكبرى.
ما أكد بارانويا اليسار تغريدة للرئيس المنتخب ترامب على «تويتر»، مقدمة للحنجوريين حجرًا يصيبون به طائري كراهيتهما الشخصية: ترامب، ونايغل فاراج (الأخير عضو البرلمان الأوروبي وزعيم حزب استقلال المملكة المتحدة). اليسار والمؤسسة الحاكمة في بريطانيا وبروكسل ومستثمرو العولمة شيطنوا الرجل لدوره المحوري في تامين استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي.
الحكومة البريطانية وغالبية حزب المحافظين الحاكم، وقفت في الخندق نفسه مع اليسار بزعامة «بي بي سي» في تحويل تغريدة ترامب إلى عصا يلهبون بها ظهر فاراج. فاراج صُنف (بضم الصاد) إبليسا في كتب صناعة الرأي العام الليبرالية الأميركية، فقد شارك ترامب حملاته وأعطي الأمل لناخبيه بوضع البريكست (خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي) كمصدر إلهام عندما انتصر الضعفاء والناس العاديون على جبروت المؤسسة الحاكمة وآلة البروباغندا العملاقة التي وفرتها الصحافة. بل إن ترامب وعد أنصاره بأن انتخابه سيكون «ثورة بريكست أميركية».
ترامب اقترح في تغريدة له تعيين صديقه نايغل فاراج سفيرًا للملكة في واشنطن.
تزعمت «بي بي سي» و«الغارديان» حملة إدانة «تدخل ترامب» في الشأن البريطاني (كان صمتهما يصم الأذان عندما هدد باراك أوباما بدفع بريطانيا آخر الطابور إذا صوتت بالخروج).
أعلن «10 داوننغ ستريت» ثقته في السير كيم داروك (سفير بريطانيا في واشنطن وكان قبلها في بروكسل ومن أنصار الفيدرالية الأوروبية)؛ «ولا دور لفاراج».
تغريدة ترامب ليست بدعة. فعقب انتخابه في نوفمبر (تشرين الثاني) 1960 وقبل دخوله البيت الأبيض طلب جون كيندي (1917 - 1963) من رئيس الوزراء وقتها السير هارولد ماكميلان (1894 - 1986) تعيين صديقه الشخصي السير ديفيد أورمزبي - غور (1918 - 1985) سفيرا. نمت صداقتهما وهما دون العشرين عندما كان أبوه جوزيف كيندي (1888 - 1969) سفيرا في لندن في 1938 وبينهما روابط أسرية غير مباشرة.
وفي صيف 1961 عين أورمزبي - غور سفيرًا في واشنطن (حتى 1965) ووصفه الشقيق الأصغر السيناتور روبرت كيندي (1925 – 1968) «بالصنف المطلوب من السفراء».
كان سفير الملكة شبه مقيم عند صديقه القديم في البيت البيض. وكان يزود الرئيس الأميركي بالسيجار الكوبي الفاخر الذي كان يصله في الحقيبة الدبلوماسية وقت مقاطعة البضاعة الكوبية بعد انضمام كوبا للمعسكر الشيوعي.
رحب كل من ماكميلان ووزارة الخارجية البريطانية والمؤسسة الحاكمة كلها في لندن بهذه الصداقة، فقد تولى ماكميلان مهمة صعبة لإصلاح العلاقات مع واشنطن بعد برود وأزمة حرب السويس في عام 1956 عقب تأميم جمال عبد الناصر لقناة السويس والفشل في تسوية الأزمة سياسيًا وقرار أنتوني إيدن (1897 - 1977) غير الحكيم بإشراك فرنسا وإسرائيل في عملية عسكرية لاستعادة قناة السويس بلا تنسيق مع واشنطن مسبقًا، وتدخل السوفيات لجانب نظام عبد الناصر مما أغضب الرئيس دوايت أيزنهاور (1890 - 1969) الذي رفض دعم باريس ولندن في مواجهة إنذارات عسكرية من موسكو في نوفمبر (تشرين الثاني) 1956.
ولذا رأت المؤسسة الحاكمة البريطانية في تلبية رغبة كيندي فرصة ممتازة لتدفئة علاقات باردة، كما رحب أيضا بالأمر الساسة والدبلوماسيون الأميركيون المعروفون بالأنغلوفايل أي الموالين لبريطانيا، خاصة وأن آل كيندي من أصول آيرلندية وكانوا في الستينات من دعامات ما يعرف باللوبي الآيرلندي المؤيد للحركة الجمهورية المناهضة للندن التي بلغت أوجها أثناء الحكومة العمالية في منتصف الستينات. فهناك سابقة لعلاقة صداقة شخصية بين سياسي بريطاني ورئيس منتخب من الحزب المنافس لحزب الرئيس الذي انتهت مدته، أدت لتحسين العلاقة عبر الأطلسي.
الفارق أن كيندي طلب ذلك وراء الكواليس من الزعيم البريطاني، وعملت الأجهزة البريطانية والأميركية بهدوء عبر دبلوماسية الأبواب المغلقة لتحقيق رغبة الرئيس الأميركي لأنها رأت في ذلك تحقيقًا للمصالح الوطنية للبلاد. فمهما كانت الرغبات والعلاقات الشخصية والنفوذ والجاه، فكلها يجب أن تسخر لخدمة المصلحة الوطنية أولاً وأخيرًا.
من السوابق المعروفة أيضًا اعتراض بلد على تعيين سفير، لأن البروتوكولات الدبلوماسية تقتضي إخطار البلد المضيف باسم السفير المقرر تعيينه قبل إعلان الأمر رسميًا. ويتبع ذلك رد وزارة خارجية البلد المضيف بالموافقة. وهناك سوابق للرفض.
الطريف أن وزير الصحة السابق سيمون بيرنز شكر ترامب على اقتراحه في المناقشة في مجلس العموم، حيث اقترح على وزير الخارجية بوريس جونسون أن يغرد طالبًا من الرئيس ترامب تعيين هيلاري كلينتون سفيرة أميركا في بلاط سانت جيمس...
سياسة ما بعد بروتوكول الدبلوماسية.