هاني نسيرة

مع أن التاريخ العالمي والإسلامي مليء بصفحات ناصعة للتسامح والقبول بالآخر، كان الاعتدال والتسامح فيها شعارا وسلوكا في آن واحد. وكان للمهاتما غاندي رفقاء مسلمون آمنوا بفكر اللاعنف والوطنية والمواطنة، شأن الأستاذ أبو الكلام أزاد، مفسر القرآن المشهور وأحد قيادات حزب المؤتمر الكبار، الذي أقر غاندي وتيتو أنه كان من ملهميهم ومعلميهم، ومثل تلميذه شبلي النعماني وغيرهم ممن رافقوه.

يحفظ تاريخ الإسلام صفحات عريضة من التسامح العقلاني مع الآخر بدءًا من حضور أمثال القديس يوحنا الدمشقي (توفي 110 هجرية) إلى حوار مشهور بين الخليفة المهدي العباسي وتيموثاوس الجاثليق بطريرك الموصل، وغيرهم حضورا فكريا ومنطقيا وفلسفيا وأدبيا.
لكن رغم كل هذا العمق التاريخي والمعرفي تبدو أصوات وحوامل ووسائط التعصب والكراهية أكثر حضورا وتأثيرا من أصوات الاعتدال والعقلنة. ربما لأنه تحمله تنظيمات ورؤى شعبوية وجماهيرية متعددة، وتستثمر فيه أحيانا أطراف مختلفة، أما التسامح الطبيعي المتمثل بالاعتدال العقلاني فيظل وحيدًا يحتاج إلى دعم لرؤاه ولفكره النقدي، حتى تكون الحداثة مشروعا ورأيا عاما كما هي في الغرب، فتستطيع أن تطهر نفسها من مظاهر انحرافاتها بين آن وآخر.
* محاولة للتفسير
للوهلة الأولى، يمكن تفسير بروز خطاب التعصب وخفوت خطاب الاعتدال والتسامح، كون الأخير هو الطبيعي المعهود بينما الأول عارض. وثانيا كون التعصب أقرب للشعبوية والجماهيرية بطبيعته السحرية والغرائزية بينما الاعتدال والعقلنة تظل طرحا نخبويا.
وكذلك ربما ينبعث التعصب كخطاب مأزوم أكثر ملاءمة لسياقات مأزومة في منطقتنا بصراعات وجدانية وتاريخية، منذ النكبة الأولى في فلسطين عام 1948، أو منذ سايكس بيكو قبل مائة سنة، ومنذ حلم الوحدة المتخيلة قوميًا ضدًا على التتريك وخلافة العثمانيين، أو دينيًا مع سقوط خلافتهم، ووصولا للحظة الاستقطاب الأكبر وهوته الأوسع بعد ما عرف بـ«الربيع العربي» عام 2011.
في هذه السياقات، وجد التعصب حوامله ومقولاته المؤسسة عبر تيارات وتنظيمات آيديولوجية عريضة، استخدمتها أداة للتعبئة، وهو ما لم يتح مثله لرموز الاعتدال الذين ظل على تنوير المجتمع وتحديثه أو على السلطة أحيانا ورغبتها في ذلك.
* بين التنظيم والفرد
كمثال على أهمية التنظيم في صناعة الحضور، أنه حين قرر الراحل سيد قطب (1906) التحول المعلن نحو التوجه الإسلامي السياسي - وقد كان إسلاميًا قبل ذلك برأينا - وتعريبه أبو الأعلى المودودي، وعدم إبداعه أكثر مما أتى به الأول - ولم يزد عليه في شيء برأينا - صار أكثر جماهيرية وشعبية، رغم أنه كان يشكو النسيان والإهمال قبل هذا التحوّل.
ولقد حمله التنظيم الأصولي على الأكتاف من المطار بعد عودته من الولايات المتحدة عام 1951 وظل يروجه ويؤمن به وبمقولاته عبر الآفاق، بينما تراجع حضور مجايليه وأساتذته من المدنيين حينها.
مقارنة بسيطة وعابرة بين سيد قطب وبين رجل من مجايليه تقريبًا كالمفكر الراحل عبد الرحمن بدوي (1917 - 2002) الذي اعتبر بشهادة علمين كطه حسين والشيخ مصطفى عبد الرازق «أول فيلسوف عربي في القرن العشرين»، حين ناقشا أطروحته للدكتوراه عن «الزمان الوجودي» وكان عمره حينها 27 سنة فقط، أعقبها بكتابات فلسفية وفكرية نوعية عن شبنغلر ونيتشه وعن روح الحضارة وغيرها، امتلك بها سبع لغات قديمة ومعاصرة، إلا أنه ظل مهمشا عند السلطة والمجتمع. بل جرى استهدافه مع قيام ثورة 23 يوليو 1952 التي قربت قطب في بدايتها، ما ولد عند بدوي إحساسًا بالغبن والأسى اتضح في ترجمته سيرة حياته التي صدرت في جزأين قبل وفاته. وهو الإحساس الذي دفعه، على ما يبدو، للانتقال بمشروعه الفكري والفلسفي الإبداعي إلى مشروع النقل والترجمة والتحقيق وما شابه من الأكاديمية المحايدة غير الملتحمة بمشروع النهضة نفسه.
* صعود اليمين عالميًا
إن الصعود الراهن لخطاب التعصب عالميًا وإقليميًا كذلك، هو أمر مفهوم في لحظة ساخنة عالميا وإقليميا ووطنيا في كثير من الأحيان، يغلب عليها التوتر والاستقطاب والمفاصلة بدرجات مختلفة، وتتمكن فيها النظرة والرؤية الأحادية للتاريخ والواقع معا التي يولد منها التعصب.
من هنا كان صعود اليمين، وسياسات الهوية عالميا، أمرا واضحًا.. من فوز دونالد ترامب إلى بروز فرنسوا فيون ومارين لوبن في طليعة المرشحين لانتخابات للرئاسة الفرنسية، وصولا إلى أطراف الصراع في المشهد عراقيا وسوريا وإيرانيا وعربيا وتركيا في أغلب جوانب منطقتنا.
رغم أن الفكر أقدم من الواقع، لكن الأخير يعيد إنتاجه، وهكذا أعيد إنتاجه بشكل رئيسي منذ «ربيع الإسلاميين» الذي ابتلع «الربيع العربي» الذي كان وعدا عامي 2011 و2012 خاصة ودخول الراديكاليات الطائفية المدعومة من إيران على خطه في سوريا واليمن، ثم ظهور مضاداتها في البلدين كذلك، وتداعيات ذلك على كثير من دول المنطقة والعالم فيما بعد.
لكن الأخطر، وهو موضع بحثنا هنا، أن المستقر في أذهان الجماهير أن الشعبوي يميل إلى التعصب أكثر من ميله للتسامح، وأن مشاعر الغضب والكراهية أكثر عمقا من تمظهراته لدى الكثيرين، ممن يمثلون نماذج مناسبة ومؤهلة للتشدد والتطرف العنيف، أو على الأقل التعاطف مع تياراته، وهو ما نلاحظه في أي حدث يحضر فيه الآخر - داخليا أو خارجيا - طرفا أو جزءا من أي صراع أو تنافس.
* أشكال خطاب التعصب
تأخذ ثقافة وخطاب التعصب أشكالا كثيرة، من الاستحلال والتكفير دينيا والاغتيال والاتهام والتخوين سياسيا، إلى تعبيرات الشماتة والتكاره والنفور والتمييز وغير ذلك من أمور. بل وفي سلوكيات عادية، تصل للسخرية الفجة والتشويش المغلوط والفضح المجاني وأمور كثيرة أخرى.
بعد ثورات ما سمى «الربيع العربي» عام 2011 كان لبعض إعلام بلدانه وللإعلام التواصلي كذلك، دور كبير في رفد ثقافة وخطاب التعصب. إذ انجرف الإعلام نفسه لتلميع بعض زعماء وأمراء الجماعات الراديكالية السابقة، ممن أفرج عنها بعد سقوط الأنظمة التي سجنتها بجرائم الإرهاب حينها، ولم يحافظ من أطلقوا هذا «الربيع» على هويته الديمقراطية والمدنية في شيء احتماء واعتناء بالتنظيمات التي تعاديها.
ثم كان لصعود الإسلاميين واغتنامهم ما حملته انتفاضات الربيع المأزومة من فرص، ثم صراعهم عليها سواء بعد سقوطهم في مصر، خصوصا، أثره في حمأة الاستقطاب وخطاب التعصب.
كذلك سعى بعضهم لإعاقة وتعطيل خرائط الطريق التوافقية مع الآخرين، كما كان في اليمن بانقلاب ميليشياتهم على كل ما التزموا به سابقا، مصرين على خوض الحرب السابعة منذ غزوهم دماج وعمران في مايو (أيار) ويونيو (حزيران)، وصولا إلى صنعاء العاصمة ومحاصرتها في سبتمبر (أيلول) 2014. قبل تدخل التحالف العربي لدعم الشرعية بطلب الحكومة الشرعية لمجلس الأمن ومجلس التعاون الخليجي نفسه في 25 مارس (آذار) 2015.
ولا يزال الأمر متعثرا في الجبهتين نظرا لإصرارهم على اغتنام الفرصة سلطة وحدهم، دون اعتبار للآخرين. وهو ما يمكن رصد تشابهه مع ما حدث في ليبيا حين رفض المجلس الوطني التأسيسي في طرابلس نتائج الانتخابات في يونيو 2014 التي فازت فيها القوى المدنية حينها، ليتم الانقسام بين طرابلس وطبرق، وبين الكرامة وفجر ليبيا، ويزداد اشتعالا حتى حينه، مع دخول «داعش» على الخط هناك منذ العام الماضي بشكل واضح. وحدث عن سوريا - البؤرة الأكثر اشتعالاً - ولا حرج فهي التي كانت مصدرا للاحتقان والاشتعال الطائفي والعمل الإرهابي في كل المنطقة والعالم، وبجانب مئات الآلاف من المتطرفين المساندين لنظام بشار الأسد من الميليشيات الشيعية الموالية للولي الفقيه، فإن سوريا غدت كذلك الملاذ الآمن والأبرز للإرهاب المعولم في أخطر أشكاله المعاصرة والتاريخية «داعش»، كما أقرت الأمم المتحدة نفسها في سبتمبر 2015.
كل هذه السياقات جعلت من الاستقطاب والتعصب والنظرة الأحادية نمطا موجها لكثير من السجال العربي الراهن، كما حفرت كل فرقة وفصيل مسلح ومتعاطف في تراثه ليجد ما يبرر به لفعل الكراهية ذاته، وسيبقى ذلك ما بقيت مسبباته وأزماته عالقة دون حل.
* الضجيج يعني الإثارة
رغم ضجيج التعصب والعنف رمزيا وعمليا، وكمون قوته الوحيدة في قدرته على الإثارة والتعبئة، وفي توظيفه اجتماعيا وسياسيا وخلق الوعي الزائف الملتصق به، فإن هذا الحضور لا يعني الغلبة في أي من المجالات، فهو على ضد من طبيعة المجالين الاجتماعي والسياسي المدنيين والخاضعين لحركة الزمن وقوانين التاريخ. بل حتى لو تم تديين السياسة والسلطة فلن تستطيع تحقيق وعودها الانتصارية والبقاء في صراع أبد العمر ضد مخالفيها.
ورغم ذيوع صفحات وأصوات التعصب في كل تراث ديني - وليس التراث الإسلامي فقط - بمختلف طوائفه، فإن الاعتدال أيضا موجود وحاضر، يحتاج البروز والإبراز من قبل المؤسسات الدينية والقائمين على منظمات تجديد الخطاب الديني، وذلك عبر توسيع مفهوم التراث نفسه ليتسع لكل ما احتواه هذا التراث من جدل وصراع متنوع، ومجالات مختلفة تمكينا لمعقولية التنوع والتسامح بعيدا عن النظرة والرؤية الأحادية التي تدعي أصالة وقدما.