أمين ساعاتي

إذا تصفحنا المجتمع الدولي نلاحظ أنه ـــ في كل مكان من العالم ـــ يمر بحالة اضطراب وعدم استقرار، ويبدو أن المنظمات الإقليمية الدولية في كل مكان من العالم تتعرض للتفكك ولم تعد قادرة على الاستمرار، والسبب أن هذه المنظمات فشلت في تحقيق الحد الأدنى من الأهداف التي من أجلها قامت هذه المنظمات. 

ولنبدأ بجامعتنا العربية فهي منظمة إقليمية عربية قامت بهدف تحقيق الوحدة بين الدول العربية، وأكدت إنشاء شبكة من التضامن في جميع مجالات الحياة كما أكدت أن أي اعتداء على أي دولة عربية اعتداء على كل الدول العربية، وألزمت جميع الدول العربية بالاستعداد للدفاع عن جميع الدول العربية إذا ما تعرضت للعدوان الخارجي.

ولا شك أن ما تحقق للدول العربية منذ إنشاء جامعة الدول العربية في عام 1945 هو مزيد من الفرقة والتمزيق ومزيد من التفاهم مع دول تعمل على تقويض الوحدة العربية.

لنأخذ إيران ـــ على سبيل المثال ـــ فهي تحتل سورية والعراق ولبنان وتدعم الحوثيين ضد الحكومة الشرعية في اليمن، ومع ذلك فإن مصر حريصة أكثر من أي وقت مضى على بناء علاقات تعاون ومودة معها!

وإذا خرجنا من منطقتنا العربية، ونظرنا إلى خريطة الاتحاد الأوروبي، فإننا نجد أن السياسي يختلط بالاقتصادي، حتى بالنسبة للموقف من الأزمة اليونانية نجد أن هناك دولا مع دعم اليونان والحفاظ عليها في الاتحاد، بينما هناك دول أخرى في الاتحاد ترى أن اليونان غير جادة في تنفيذ الالتزامات وستستمر عبئا ثقيلا على الاقتصادات الأوروبية الأخرى، لأن الدولة اليونانية أخذت كل الفرص للإصلاح، ولم يعد لدى دول الاتحاد إلا لفظ اليونان من منظومة اليورو حتى لا تعرض الاتحاد ــــ في المستقبل ـــ لمزيد من الأزمات المتلاحقة.

ولكن ما يؤخذ على الاتحاد بصورة عامة أن النمو الاقتصادي لدول الاتحاد لم يكن في كل الأحوال متساويا أو متقاربا في الاتجاه، بل هناك دول تقدمت اقتصاديا، وهناك دول تأخرت، وكانت النتيجة انقسام أوروبا إلى شمال متقدم تتوافر لديه وفرة في الاحتياطيات النقدية، وجنوب بطيء النمو يتزايد فيه العجز المالي ويعتمد إلى حد بعيد على القروض الداخلية والخارجية في تمويل مشاريعه وتنفيذ برامجه.

إن انخفاض النمو في دول الجنوب الأوروبي بات يلفت الأنظار، بل أضحى يبعث على القلق بشأن مستقبل مجموعة اليورو خاصة والاتحاد الأوروبي عامة، ويذكرنا هذا التقسيم الأوروبي بما كان عليه الوضع أثناء الحرب الباردة حينما كانت أوروبا تنقسم إلى أوروبا الغربية المزدهرة، وأوروبا الشرقية المتخلفة.

ولذلك ـــ بصرف النظر عن الأزمة اليونانية ـــ فإن مشروع الاتحاد الأوروبي في حاجة إلى مشروع للإصلاح يشمل كل الدول حتى لا تصبح اليونان فقط هي المشكلة، ولكن ستلحقها بعض الدول الأخرى مثل البرتغال وإسبانيا وإيطاليا وفرنسا.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن هذا التفاوت بين شمال مزدهر اقتصاديا، وجنوب منكمش اقتصاديا أدى إلى نشوء أحزاب وطنية يمينية متطرفة في كثير من دول أوروبا لا ترحب بالاندماج وتطالب بالعودة إلى الدولة القومية، وبالتحديد فإن الأجيال الجديدة في دول الاتحاد لا تعبر عن ترحيبها بالانضمام إلى الاتحاد، وإذا استمر الانضمام إلى الاتحاد لا يحقق الأحلام التي وعدوا بها، فإنهم سينقلبون على الاتحاد قبل أن يتعرضوا لأزمات اقتصادية كتلك الأزمة التي تتعرض لها حاليا اليونان.

كذلك من الأشياء المقلقة أوروبيا الاستفادة العرجاء من قيام الاتحاد الأوروبي، أي أن ألمانيا هي المستفيد الأكبر من قيام الاتحاد، وليس صحيحا أن قيام الاتحاد في مصلحة كل دول الاتحاد، ولذلك تفوقت ألمانيا كقوة اقتصادية كبرى داخل منطقة اليورو خاصة وداخل الاتحاد الأوروبي عامة، بينما كثير من دول الاتحاد عبرت عن استيائها من تفوق ألمانيا، ومنها إسبانيا والبرتغال وإيرلندا واليونان، وحتى فرنسا التي تعرضت لأزمة اقتصادية في عام 2014 لحقت باليونان وإيطاليا والبرتغال وإسبانيا وانتقدت استفادة ألمانيا الكبرى من الاتحاد، بينما فرنسا وكل الدول الأخرى لم تستفد من انضمامها إلى الاتحاد بالقدر الذي كانت تأمل وتطمع وتحلم.

إن تمدد الأزمة الاقتصادية إلى دول أخرى بعد اليونان هو أمر وارد ومتوقع، ويجب ألا ننسى الأزمة التي اجتاحت إيطاليا وإسبانيا والبرتغال وفرنسا، وهذا من شأنه أن يضع مستقبل الاتحاد الأوروبي على كف عفريت، ويؤكد المزاعم التي كثيرا ما خرجت من هذه الدول وهي التي تتهم ألمانيا بأنها المستفيد الأكبر من الاتحاد وليس كل دول الاتحاد الأعضاء.

وإذا انتقلنا إلى "نافتا" وهو كارتل اقتصادي يضم الولايات المتحدة وبقية دول أمريكا اللاتينية، فإننا نلاحظ أن هذا التكتل بعد غياب الرئيس الأمريكي بيل كلينتون لم يعد له وجود، وحتى الاجتماعات الدورية التي كانت تعقد بين الرؤساء في الأمريكتين برعاية الولايات المتحدة غابت تماما من المشهد وغاب معها الحديث عن "نافتا" التي كانت تسعى إلى إنشاء سوق أمريكية مشتركة هدفها زيادة معدلات النمو في كل الدول الأعضاء.

وبصورة عامة فإن فشل التكتلات الاقتصادية الإقليمية والدولية سواء في آسيا أو في أوروبا أو في أمريكا اللاتينية، بل أكثر من هذا، فإن فشل منظمة التجارة العالمية يجعل دول الاتحاد تشعر بالقلق من مصير قد يطولها، إذ إن منظمة التجارة العالمية وعدت دولها الأعضاء بالفردوس الاقتصادي الأجمل، ولكن مع الأسف لم يتحقق شيء، ولم تلتزم الدول بالاتفاقات التي وقعتها مع المنظمة، بل إن كثيرا من الدول الموقعة مع منظمة التجارة العالمية تنصلت من تنفيذ الاتفاقات ولوحت بأن الاتفاقات مجرد وعود بأحلام غير قابلة للتطبيق العملي!

وما يحدث الآن أن ألمانيا تحقق فائدة عظمى، بينما الدول الأخرى تتفاوت فوائدها من الانضمام إلى منطقة اليورو وهو ما يجعلها تعيد حساباتها وربما تتخذ في المستقبل القريب أو البعيد قرارا بالتراجع عن قرار الانضمام إلى الاتحاد.

لهذه الأسباب وغيرها، فإن القلق يساور معظم دول الاتحاد الأوروبي من مصير الاتحاد إذا ما انفرطت اليونان من "سبحة" منطقة اليورو. لذلك كثير من الدول تحذر من انفصال اليونان من الاتحاد، لأنها تتوقع أن انسحاب اليونان سوف يشجع على انسحابات لعدد آخر من الدول، وبالذات الدول التي لم تعد تطمئن إلى مستقبل الاتحاد، وبالتالي فإن الاتحاد الأوروبي ــــ على المدى البعيد ــــ معرض للانحلال والتفكك والانفراط.