رضوان السيد

نمضي في الأيام المقبلة إلى مؤتمرين بدولة الإمارات العربية المتحدة. أما المؤتمر الأول فتقيمه مؤسسة الفكر العربي في سلسلة مؤتمراتها عن «التكامل العربي»، وهو مخَّصٌص هذا العام لتجربتين وحدويتين وتعاونيتين عربيتين ناجحتين هما: تجربة دولة الإمارات العربية، وتجربة مجلس التعاون الخليجي. قامت الدولة الاتحادية الإماراتية عام 1971، وهي لا تزال تزداد رسوًخا وتوحًدا وسط إجماع شعبي منقطع النظير. أما مجلس التعاون الخليجي، فإنه لا يزال قائًما وفاعلاً بعد خمسٍة وثلاثين عاًما وأكثر على إنشائه. 

وهكذا فإّن تجربة دولة الإمارات، هي تجربٌة نموذجية للدولة الوطنية العربية، بينما يشّكل مجلس التعاُون الخليجي نموذًجا للعمل المشترك في منطقٍة من مناطق العالم العربي، الذي يواجه مشرًقا ومغرًبا تحدياٍت هائلة. أما المؤتمر الثاني بدولة الإمارات فيقيمه «منتدى تعزيز السلم»، وهو يشّكل دعوًة لإنقاذ الدولة الوطنية العربية من أخطار الانقسام الديني، والانقسام الداخلي، وعدوان الجوار الإقليمي والدولي.

كانت مصر أول تجار الدولة الوطنية العربية. فقد ظهرت الملكية الدستورية فيها عام 1922 على أثر حركة أو ثورة العام 1919 ضد الاحتلال البريطاني. وقد اكتسبت الدولة الجديدة أو النظام الجديد شعبيًة هائلًة لدى الجمهور المصري، وصار نضالها ونظامها نموذًجا لدوٍل كانت تناضل ضد الاستعمار مثل الهند والمكسيك وإثيوبيا وعشرات الدول الأخرى التي كانت تحاول انتزاع استقلالها، وتوحيد مناطقها المتناثرة، ودائًما بفعل التاريخ أو التنوع أو الاستعمار الأوروبي. وقد احتاج إخراج الاستعمار البريطاني من مصر إلى ثورٍة أخرى عام 1952، وإلى الدخول في حرٍب قادتها ضَّدها عام 1956 كٌّل من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل. ولذلك فقد صارت الدولة الوطنية المصرية في الخمسين عاًما الأولى على قيامها، أو تطورت تجربتها لدى شعبها ولدى شعوب
العالم الثالث، إلى نجاٍح في بناء الوحدة الوطنية، والنظام الحديث، وتكوين الأنظمة الوطنية في العالم العربي الذي قادته مصر في إنشاء الجامعة العربية، وفي المشاركة من خلال حركة عدم الانحياز في نظام العالم وأمنه بعد الحرب الثانية.

ولا حاجة لذكر تجارب التحرر وإقامة الأنظمة الوطنية في مشارق العالم العربي ومغاربه، فهي متشابهة، من حيث الكفاح ضد الاستعمار، ثم إقامة نظام استقلالي للحكم وإدارة الشأن العام. وغني عن القول إنه في سائر حالات الأنظمة أو الدول العشرين التي دخلت في الجامعة العربية، فإّن شعبيتها جميًعا كانت جارفًة في عقودها الأولى، كما أن تضامنها حتى بعد انقسامها خلال الحرب الباردة، وبعد قيام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، ظَّل بارًزا ومشهوًدا. وصحيح أّن تجارب وحدويًة عربيًة فشلت. لكّن هناك تجارب نجحت وأبرزها بالطبع تجربة دولة الإمارات العربية. 

بل إّن آخر تلك التجارب، وهي التجربة التي قامت عام 1990 بين شطري اليمن، كانت تملك في نظر معظم المراقبين حظوًظا كبيرًة في النجاح والاستتباب. فلماذا تتكاثف الأخطار في السنوات الأخيرة على «الدولة الوطنية العربية» دون غيرها، خصوًصا أّن تلك الظاهرة لا تتهدد أقاليم أو أقساًما كانت منفصلًة فتوحدت فقط، بل إنها تواجُه عدة دوٍل عربيٍة في أجزائها الداخلية التي كانت دائًما واحدًة موحدًة حتى قبل قيام الدولة الوطنية في تلك البلدان؟!

يختلف المحللون والباحثون الاستراتيجيون في الأسباب، بعد أن مضت عقوٌد كان فيها المحللون أنفسهم يشيدون بتوحد الانتماء واللغة والدين والجغرافيا في المشارق والمغارب العربية. فمنهم من يعيد ذلك إلى التحديات الدينية، بمعنى أّن الإسلام الواحد لدى العرب انقسم على نفسه أو حدثت فيه انشقاقات، وأّن هذه الانشقاقات تريد إنشاء أنظمة دينية. ولأّن العالم والجوار يخشاها بسبب تطرفها وإرهابها، فقد هاجمها في عقر دارها بعد أن هاجمته. بينما يعيد آخرون هذا التصدع إلى هشاشة المجتمعات والدول، التي اهتزت لأول صدمة لأنها مصطنعة في الأصل منذ أن أقامتها اتفاقية سايكس - بيكو بعد الحرب الأولى. بينما يعيد فريٌق ثالٌث ظاهرة التصدع إلى الغزو الأميركي للعراق، الذي كانت له تداعياٌت على الداخل العراقي، وعلى الجوار.

والواقع أّن كَّل تلك العوامل موجودٌة وواردٌة، لكنها إّما أن تكوَن قد عرضت أخيًرا، أو أنها عرضت في بعض البلدان دون غيرها. فالإسلام المتشدد الذي انفجر في الجزائر أو سوريا أو العراق، ما كان قوًيا ولا ظاهًرا في كل البلدان التي اضطربت، بحيث يتهدد الأمن أو الوحدة الداخلية. والأميركيون غزوا العراق، لكنهم لم يغزوا تونس ولا سوريا ولا السودان. وما كانت ليبيا جزًءا من سايكس- بيكو ولا مصر ولا السودان ولا اليمن.

إّن سائر الأنظمة التي تصدعت، وأدى ذلك إلى تصدع في البلدان، باستثناء العراق الذي تعرض للغزو، إنما هي الأنظمة الأمنية والعسكرية، ذات الأنظمة الاستبدادية. إّن كل البلدان التي حصلت فيها اضطراباٌت شعبيٌة كانت فيها أنظمة عسكرية خالدة، جاءت بالانقلاب، وألغت الحياة السياسية، ودّمرت سمعة الدولة الوطنية القائمة، ودفعت الناس للثوران بعد طول تردٍد وانتظار.

لا يستطيع أي نظاٍم سياسي مهما بلغت قوته، ومهما بلغ بطشه، أن يستمر في إخضاع شعبه. فاستمرار النظام - حتى في أدبياتُكتاب نصائح الملوك - رهٌن بالرضا الشعبي عنه. وهو الأمر الظاهر في تجربة دولة الإمارات العربية، وسائر الدول العربية المستقرة وغير العربية. فالاستقرار الراسخ وليس الُمرَغم عليه لا يتزعزع حتى بالغزو الأجنبي. لكنه لا يبقى ولا يظُّل راسًخا إذا انَسَّد النظام، وفقد الناُس الأمل في التغيير. وقد قال عبد الرحمن الكواكبي إّن الاستبداد مفسٌد للدين والسياسة والأخلاق لقد حاولت شعوٌب عربيٌة كانت الأكثر تعرًضا لظواهر العسكرة والفساد والإفقار، أن تغّير سلمًيا إدارة الشأن العام. والتصدع في الأنظمة الطويلة الأمد، التي قاومت الحراكات الشعبية بشراسة، استدرج، بالتعرض أو بالاستدعاء، الظواهر السلبية الأخرى، مثل الإسلام الانشقاقي، أو المسلحين المحترفين والمرتزقة، أو التدخل الخارجي، أو سائر أولئك الفرقاء، فلم تتهدد الأنظمة فقط، بل تهددت وحدة الشعوب والبلدان أيًضا. 

فكيف يحافظ بلٌد مثل سوريا على وحدته ما دام نظامه قد هَّجر اثني عشر مليوًنا من شعبه. وكيف يحافظ العراق على تماسكه وهناك أكثر من خمسة ملايين مهَّجر؟! وكيف تتماسك ليبيا وفيها جيشان وحكومتان ومائة تنظيم مسَّلح. أو كيف يتماسك اليمن، بينما تحاول عصابٌة مسَّلحٌة الاستيلاء عليه وتدمير نظام حياته، وأعراف العيش فيه بالتعاون مع ديكتاتوره السابق؟!

ليست المشكلة في الدولة الوطنية، التي نجحت تجربتها في أجزاء كبرى من العالم الثالث بالحرية وبالتنمية وبالعمل السياسي المعقول. والعرُب ليسوا بدًعا بين البشر بحيث ينفردون بكره دولتهم الوطنية التي أقامها أسلافهم بدمائهم وَعَرقهم، ثم تسلمْتها عقوًدا وعقوًدا عصاباٌت مسَّلحٌة تعتبر نفسها جيوًشا وطنية! كونوا مثل الشيخ زايد أو الملك عبد العزيز وخذوا دولاً وطنيًة عربيًة ناجحة!