توفيق السيف

 خلافًا لما ظننت حتى أيام خلت، فإن الاهتمام بالإصلاح في المجال الديني ليس قصرًا على النخبة أو الناشطين في المجال الثقافي. النقاشات التي سمعتها في الأسبوعين الماضيين، أخبرتني أن شريحة واسعة من الناس تبحث فعلاً عن رؤية جديدة، ليس دافعها مجرد الفضول المعرفي، ولا مناكفة التيار السائد، بل الرغبة العميقة في أن يسهم كل فرد، من زاويته، وبقدر معرفته، في تطوير صيغة معينة، تناسب حاجات اليوم وتستوعب تحدياته.
لطالما واجهت سؤال: من أين يبدأ الإصلاح؟ وأظن أن كل قارئ قد سمع أو قرأ مقترحات تحدد نقاط البداية. صديقي الدكتور مسفر القحطاني مولع بإعادة تأسيس الاجتهاد في إطار نظرية المقاصد، وقد كتب كثيرًا في هذا الباب. المفكر المعروف حسن حنفي وعبد الجبار الرفاعي وآخرون رأوا أن علم الكلام الجديد، أي الرؤية الفلسفية الجديدة للذات والعالم، هو مبدأ كل تجديد. الدكتور وجيه قانصو وآخرون رأوا أن إعادة موضعة النص المؤسس ضمن إطاره التاريخي، والتركيز على رسالته الداخلية، هي الكفيلة بجعله منفتحًا على تحديات العلم الحديث والعالم الحديث. وهناك بطبيعة الحال من فضل الاكتفاء بتجديد الصيغ الموروثة دون المس بمضمونها، مثل الدعوة إلى وضع مدونة للأحكام، نظير تجربة الموسوعة الفقهية في الكويت ومصر، ومجلة الأحكام العدلية التي وضعت في العهد العثماني وسار على خطاها كثير من الدول العربية.
جميع هذه المقاربات مفيدة. وهي تؤدي، على مراحل متفاوتة، إلى تمهيد الطريق لرؤية جديدة، أو أنها، على أقل التقديرات، تسهم في فتح صناديق التراث المغلقة، ووضعها وجهًا لوجه أمام تحدي التجديد ومستلزماته.
قلت لأحد الزملاء إننا قد بدأنا فعلاً. نفس التساؤلات والجدالات حول واقع الدين وصورة المتدين في هذا العصر، واعتراض الناس على بعض الأحكام الشرعية وما قام على أرضيتها من قوانين، تدل كلها على أن مسلم اليوم غير مقتنع بالموروث، ولا هو راضٍ ببقاء الخطاب الشرعي حكرًا على أهل حرفة بعينها.
لا أستطيع الجزم بنسبة أو رقم محدد. لكنني أستطيع القول إن آلاف المسلمين المتعلمين يريدون الإسهام في صياغة صورة جديدة للإسلام، صورة يعتقدون أنها أكثر استجابة لتحولات العلم الجديد والعصر الجديد، صورة قادرة على استيعاب حاجاتهم التي لم يعرفها الأسلاف ولم يتخيلوا مثلها.
مسيرة الإصلاح الديني لا تنطلق - في اعتقادي - من إصدار مزيد من البحوث والدراسات الموسعة أو العميقة، بل من إقرار المسلمين، كل فرد فيهم، بأنه شريك في تشكيل زمنه وصناعة حياته.
الدين ليس عالمًا مستقلاً عن حياة الفرد أو الجماعة. بل هو جزء منها. قد تراه أعظم جوانب الحياة قيمة أو أعلاها مرتبة أو أشدها قدسية، لكنه في نهاية المطاف جزء من هذه الحياة، وهو يتأثر بكل العوامل التي تعرض لها أو تؤثر فيها. المجتمع المتخلف يبحث في دينه أو في ثقافته أو تراثه عن تبرير لنكوصه وانكماشه. والمجتمع الناهض ينتج فكرًا يعكس روح النهضة وحاجاتها.
نقطة البداية إذن هي إيمان الجميع بأن دينهم صورة عن واقعهم، وأنهم لهذا السبب، شركاء في صياغة التجربة الدينية وتجديدها، مثلما يفعلون في جوانب حياتهم الأخرى.. أي إيمانهم بأن الدين لهم جميعًا ولأجلهم جميعًا، وليس صندوقًا مغلقًا اختصت بمفاتيحه طبقة بعينها أو أهل حرفة دون غيرهم.