إياد أبو شقرا

 العارفون بأساليب مؤسسات السلطة في إيران يفسّرون تعمّد قاسم سليماني الظهور في صور وأفلام في أماكن المعارك التي تخوضها ميليشياته على أراضي العرب ثم بثها على شاشات التلفزيون ومواقع التواصل الاجتماعي، بأنه جزء من «الحرب النفسية» التي تتقنها هذه السلطة.
سليماني، قائد «فيلق القدس» في الحرس الثوري الإيراني، جزء من «صراع سلطة» داخل المؤسسة الأمنية العسكرية التي تشكل اليوم العمود الفقري للسلطة الحاكمة في إيران تحت «الشرعية» الاسمية لـ«الولي الفقيه». ذلك أن المجالس الشوريوية والمرجعيات الدينية، ومثلها رئاسة الجمهورية والحكومة، تعدّ مؤسسات ثانوية النفوذ مقارنة بـ«مركز القوة» الحقيقي الذي باتت تشكله شبكة مصالح الأجهزة الأمنية والعسكرية - وفي مقدمها «الحرس الثوري» - ومافياتها المالية... متدثّرة برداء «المرشد الأعلى» علي خامنئي. ومن ثَم، فإن سليماني وزملاءه في الحرس الثوري والتشكيلات الأمنية والعسكرية يفرضون اليوم جدول أعمال الدولة في الداخل، ويرسمون مخططاتها ويديرون مغامراتها الخارجية.
ومع أن هناك مَن يؤمن بأن الكثير مما يقولونه بعنجهية وصلف غير واقعي بالضرورة، وهو مخصص أساسا للاستهلاك المحلي، وأن الوضع الداخلي الإيراني أسوأ مما تعكسه أبواق طهران الإعلامية للخارج، فالواضح جدا أن جزءا من عنجهية طهران و«صقورها» يعتمد على المناخين الإقليمي والدولي المواتيين جدا.
وحقًا، كانت جهات قد تحدثت أخيرًا عن توتر وتشكيك متبادلين بين بعض أجنحة السلطة في طهران وقوى نافذة في «اللوبي الإيراني» الناشط في واشنطن بسبب اختلاف الرؤى والتكتيكات. لكنّ مطلعين على ما يدور في الكواليس لا يرون في هذا الاختلاف معضلة ستواجه حراك طهران إبان عهد دونالد ترامب ما لم تتمكن القوى المناوئة لملالي طهران، والمتضررة من مخططاتهم ومغامراتهم العدوانية والاحتلالية، من بناء تفاهمات مصلحية في العمق مع الإدارة الأميركية العتيدة.
إن ما حققته طهران في سوريا والعراق حتى الآن يُسجل كانتصارات، وهذا واقع لا يجوز إنكاره. كذلك نجحت طهران ليس فقط في عقد صفقة تفاهم مع واشنطن أتاحت لها حرية التحرك الهدّام في معظم أنحاء الشرق الأوسط، بل تمكنت أيضًا من ربط مصالحها التكتيكية بمصالح روسيا رغم العداء المُزمن بين القوتين المُتربّصتين إحداهما بالأخرى في جنوب بحر قزوين لعقود عديدة من الزمن.
«الاحتلال» الإيراني للعراق تحقّق على مراحل؛ بدأ بغزو 2003، ثم تحت إدارة مؤقتة حلّت مؤسسات السلطة وسلمت قيادة العراق للقوى الطائفية المؤيدة لطهران أو العميلة لها، واليوم بعد فترات حكومات إبراهيم الجعفري ونوري المالكي وحيدر العبادي ما عاد هذا «الاحتلال» بحاجة إلى دليل. ولئن كان مصير الشمال الكردي بات قاب قوسين أو أدنى من الحسم لصالح الانفصال والاستقلال، فإن الجزء الوحيد المتبقي لتثبيت الصيغة الاحتلالية هو ما سيحصل في الموصل ومحيطها، ثم تحديد هوية منطقة الفرات الأوسط (الأنبار) السنّيّة وعلاقتها بسلطات بغداد.
الشيء نفسه يمكن أن يقال الآن عن سوريا، بعد اقتراب الحلف الإيراني - الروسي من ضبط الديموغرافيا المطلوبة لـ«سوريا المفيدة»، على وقع التهجير السكاني الممنهج برعاية دولية كاملة. وهو تهجير جارٍ التحكم بتفاصيله عبر حوارات واجتماعات إقليمية ودولية متعدّدة الأطراف، بدأت بجنيف، ولعلها لن تنتهي بآستانة عاصمة كازاخستان.
وفي حين ما زالت الصورة في الجنوب السوري، «المجمّد ميدانيا»، رهنا برسائل مُرمّزة بين إسرائيل من جهة ونظام الأسد و«منظومة» قاسم سليماني و«محمية» فلاديمير بوتين من جهة ثانية، تمضي واشنطن في رهانها المشبوه على النوازع الانفصالية الكردية في شمال شرقي سوريا بذريعة القتال ضد «داعش»، وتترك مصير شرقها - محافظة دير الزور - مرتبطًا بمصير باقي الفرات الأوسط في محافظة الأنبار بغرب العراق.
ونصل إلى لبنان. في لبنان توهّمت الغالبيتان المسيحية والسنّيّة أنهما استطاعتا أخيرا «إنقاذ» كيان لبنان المستقل بانتخاب ماروني حظيَ بدعم غالبية المسيحيين رئيسًا للجمهورية، وإسناد رئاسة الحكومة إلى مسلم سنّي حظي بدعم السنّة، وبالتالي سيتمكن الرجلان (ميشال عون وسعد الحريري) من إخراج البلاد من «الفراغ» الذي استمر سنتين ونصف السنّة. ومع أن معظم العقلاء كانوا يدركون ضمنيًا أن «الفراغ» مجرد رأس جبل الجليد، وأن الأزمة أسوأ بكثير مما يودّون إقناع أنفسهم به، فإنهم سمحوا لأنفسهم بتصديق وعود وتعهدات برهنت الأيام غير مرة أنها لا تعني شيئًا. أما مصدر هذه الوعود فـ«قوى أمر واقع» مسلّحة تتلقى أوامرها من الخارج، وتمارس في لبنان «احتلالاً» حقيقيًا اخترق مختلف المؤسسات الحكومية والإدارية والأمنية والعسكرية، وتخوض خارج لبنان حروبًا إقليمية خدمة لأهداف مَن تتلقى أوامرهم..
لبنان، المُراد منه تأكيد واقعه «الاحتلالي» باعتماد «قانون انتخابي» يطالب به «حزب الله» ويسعى لفرضه، يساهم اليوم بتنفيذ بنود «احتلال» الحرس الثوري الإيراني سوريا. ويتحقق هذا ليس فقط عن طريق خوض الحزب معارك تهجير أهالي بلدة القصير ومدينة حمص وريف حمص ومدينة حلب وريفها، بل مساهمته أيضا بالتهجير المذهبي في المنطقة المحيطة بالعاصمة دمشق (الغوطة) ومنطقة وادي بردى لتحصين النظام فيها وربطهما بعمق الخزّان البشري الشيعي في لبنان. ومعلوم أن «حزب الله» - المرتبط عضويا بالحرس الثوري الإيراني، والمؤمن بسلطة الولي الفقيه - كان قد عمل على تغيير الخارطة الديموغرافية حتى في لبنان بمغامراته العسكرية، وإضراره بالقطاعات الاقتصادية المختلفة، دافعًا مئات الألوف من الشباب اللبناني إلى الهجرة.
وهكذا، لدى مشاهدة صور قاسم سليماني أمام قلعة حلب، والمهجّرين الدامعين داخل الحافلات الخضراء التي جعل منها النظام السوري شعارًا للمشروع الاحتلالي المذهبي، والسماع عن «المصالحات» القسرية لإنهاء حصارات التجويع والموت... لا بد من وقفة.
نعم، لا بد من وقفة، بينما يثرثر المجتمع الدولي حول محاربة الإرهاب والتصدي للتطرف ودعم «الشرعية» السياسية، وتعقد الاجتماعات والصفقات لتسهيل مؤامرة رسم الخرائط الجديدة للمنطقة.
نحن اليوم، بالفعل، على عتبة حالة إقليمية مختلفة جدًا عما عهدناه من 100 سنة، سيكون فيها خاسرون ورابحون، وحاضرون ومغيّبون. وعلينا أن ندرك ما فيها من تحديات مصيرية.