مجاهد عبدالمتعالي

من حق الأجيال القادمة أن تتكئ على معطيات تحمل في ثناياها فضاء وطنيا لثقافة ثابتة يستظل بها المواطنون على مختلف مذاهبهم وانتماءاتهم

إذا كانت المعطيات الثابتة لقوة الدولة هي التاريخ والجغرافيا وعدد السكان والثقافة، فإن قراءة الخريطة السياسية حاليا وبالتركيز على الجانب التاريخي تعطينا وجها آخر قديما يطل من أيام الخلافة العثمانية ومحمد علي، فتركيا أتاتورك هي وريثة التاريخ العثماني، ومصر وريثة حضارة بآلاف السنين، نستقطع منها فترة محمد علي، ولأن قوة الدول تتكئ على ما يسمى الحدود القانونية، ويستتبعها الخط الجيواستراتيجي، ونقصد به الفضاء المعنوي الخاص لامتداد الدولة متجاوزا حدودها القانونية، كما نرى في سلوك تركيا منذ عقود في شعورها بوجود فضاء معنوي لها داخل العراق وسورية، باعتبار ما كان (عثمانيا)، مما يجعلها في عدم وفاق مع الحكومات القوية آنذاك، حاولت فرضه كاستحقاق غير مكتوب الآن، وسيبقى ما بقي ضعف الدولتين العربيتين (العراق وسورية).
مصر في موقفها من سورية تتقاطع مع خطها الجيواستراتيجي مع تركيا، وكأنما تستعيد خلافات محمد علي مع الدولة العثمانية، وليس مجرد استعادة لتاريخ وحدة القطرين في عهد عبدالناصر، وتاريخ مصر الذي يتجاوز تاريخ تركيا الحضاري، مع عدد السكان والثقافة في المعطيات الثابتة للقوة تستطيع منافسة تركيا الحالية، خصوصا في الخط الجيواستراتيجي داخل الوطن العربي والشرق الأوسط، أما المعطيات المتغيرة للقوة وهي (القوة الاقتصادية والقوة العسكرية والقوة التكنولوجية) فكما هو واضح أن تركيا تتفوق على مصر في هذا الجانب، ولهذا فمن حق مصر على أصدقائها ملء جوانب النقص في المعطيات المتغيرة للقوة، وخصوصا الدول العربية التي لا ترغب بأن تجد نفسها في مجال الخط الجيواستراتيجي لتركيا أو غير تركيا مثل إيران مثلا التي تتكئ هي أيضا على نفس المعايير وتحاول مد فضائها الخاص.
بالنسبة للسعودية فبإمكانها أن تختار بين تاريخ ديني عمره ألف وأربعمائة سنة يمثله وجود الحرمين الشريفين كعمق روحي، كتلته مواطنوها أحفاد الأوائل من الصحابة الكرام، وبين تاريخ ديني عمره مائتي سنة يتكئ على دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، ويمثلها معطيات ظهرت سلبياتها في مؤتمر غروزني، بالإضافة إلى المولد النبوي وموقف الدعوة منه استثناء من دول العالم الإسلامي، علما بأن التاريخ الديني الذي عمره ألف وأربعمائة سنة يسوغ لها مد فضائها الخاص على رقعة العالم الإسلامي، بينما تاريخها الديني الذي عمره مائتي سنة، سيخلق لها فضاء أقل من حدها القانوني بسبب التنوع الديموجرافي المذهبي بين سكانها، الذي ما زال عالقا كأزمة هوية حتى الآن، مما يشتت ثابت الثقافة، ويضعف ثابت التاريخ الممتد لألف وأربعمائة سنة، طبعا المعطيات الأخرى لتعداد السكان تتكامل بالتحالف الخليجي واستدماج اليمن، وهذه معطيات زادت صعوبة بسبب حرب اليمن، مع هوية (خليجية) رابطها الحقيقي (دواعٍ أمنية) لا مصالح استراتيجية لتكامل اقتصادي وسياسي واجتماعي، والدخول في تفاصيل العلاقات البينية بين دول الخليج يكشف كيف أن السياسة البينية بين دول الخليج طيلة سنواتها كانت تتكئ على كنس الإشكالات ووضعها تحت السجادة، وليس التخلص منها خارج (البيت الخليجي) وتجاوزها للأبد.
ما طرحته رؤية 2030 يستحق الاهتمام والدعم، فهو على جميع المستويات سيحقق قفزة تتجاوز أزمة المعطيات التي ذكرناها، فثابت التاريخ كما هو واضح في الرؤية قرر الاتكاء على التاريخ الإسلامي الذي انطلق من مكة والمدينة، وليس على التاريخ العقائدي الذي يضيق ببقية المذاهب، ومن حق الأجيال القادمة أن تتكئ على معطيات تحمل في ثناياها فضاء وطنيا لثقافة ثابتة يستظل بها المواطنون على مختلف مذاهبهم وانتماءاتهم، ونفوذ سياسي يحقق شروط الاحترام المتبادل مع دول الجوار والعالم، لا أن يكون سببا في عكس ذلك.
يبقى طموحنا في الحفاظ على خطوطنا الجيواستراتيجية، بمراعاة الأبعاد العربية التي مزقتها الطائفية، فالسعودية باستعادتها لمعطياتها القديمة في دعم كل ما هو إسلامي ضد الشيوعية، فبإمكانها دعم كل ما هو عربي ضد ما هو شعوبي (فارسي أو تركي)، فكما استطاعت أن تدعم في السبعينات حركة المحرومين التي أسسها الإمام موسى الصدر، بالإضافة إلى علاقتها الودية مع مراجع شيعية أخرى، فبإمكانها خلق مثل هذا الفضاء الواسع باتجاه كل ما هو عروبي، ومصر مهما اختلفنا معها تبقى أرض الكنانة، ويجب أن نحتمل بقاءها على الحياد وما هو أكثر من الحياد، لتكون ذخرا لنا في الحلول الاضطرارية القادمة، بدلا من إقحامها في ما يجعلها جزءا من المشكلة.