إدريس لكريني

رغم انسحاب المغرب من منظمة الوحدة الإفريقية (الاتحاد الإفريقي حالياً)، في منتصف الثمانينات من القرن المنصرم؛ بسبب الخطأ الكبير الذي ارتكبته المنظمة، والمتمثل في الاعتراف بالبوليساريو، والقبول بعضويتها ضمن تناقض صارخ مع مبادئ المنظمة في علاقة ذلك بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول؛ وبالقبول بعضوية كيان لا تتوفر فيه عناصر الدولة، كما هي متعارف عليها في القانون الدولي، فإن علاقاته (المغرب) مع الدول الإفريقية لم تنقطع قط؛ بل إنها شهدت تطوراً ملحوظاً في العقدين الأخيرين على المستويات كافة، في إطار علاقات متوازنة وندّية مبنية على تبادل المصالح وتقاسم التجارب، وبعيدة عن كل مظاهر الهيمنة؛ أصبح المغرب معها ثاني دولة مستثمرة في الفضاء الإفريقي.

في شهر يوليو/تموز من عام 2016 قرّر المغرب العودة إلى الاتحاد الإفريقي؛ وهي العودة التي تأتي في ظروف مختلفة تماماً عن تلك التي تم فيها الانسحاب. فعلى مستوى قضية الصحراء؛ وفي الوقت الذي ما زالت تردّد فيه البوليساريو خطاباتها المتجاوزة؛ قدم المغرب مشروع الحكم الذاتي كتعبير عن رغبة صادقة وجدية لطي هذا الملف؛ خصوصاً أن المبادرة تقوم في أساسها على التفاوض؛ وتتيح للساكنة الإمكانات والصلاحيات الكفيلة بتدبير شؤونها بصورة ديمقراطية، وتمثل حلّاً واقعياً يوازن بين مطلبي الاستقلال والوحدة؛ بما يجعلها (المبادرة) امتداداً لحق تقرير المصير.

كما أولى المغرب في السنوات الأخيرة أهمية كبيرة للشراكات الاقتصادية والتجارية مع مختلف الدول الإفريقية، كسبيل لتطوير هذه العلاقات؛ فيما لا تخفى الجهود المغربية المتخذة على مستوى تثبيت الأمن والسلم في الكثير من مناطق التوتر والأزمات الإفريقية؛ في إطار مبادرات فردية، أو ضمن جهود الأمم المتحدة.

ويتقاسم المغرب العديد من المقومات المشتركة مع مختلف البلدان الإفريقية؛ بما يدعم هذه العلاقات، ويعطيها بعداً أكثر عمقاً واستراتيجية. فهذه العلاقات تمتدّ لزمن بعيد؛ وأسهمت ظروف الاحتلال الأجنبي لعدد من دول القارة في كبح تطورها؛ غير أنها سمحت من جهة أخرى، في تعزيز مظاهر التعاون والتنسيق بين الجانبين قبيل الحصول على الاستقلال، وبعده أيضاً، في إطار منظمات إقليمية ودولية.

وتواجه الدول الإفريقية مجتمعة تحديات مشتركة في الوقت الراهن، من قبيل دعم التنمية، والحد من تنامي الصراعات والنزاعات الداخلية، والتهديدات المرتبطة بالهجرة والإرهاب والتهريب، التي تفرض مجابهتها في إطار من التنسيق والتعاون.

إن دعم العلاقات المغربية مع الدول الإفريقية التي يصل عددها 53 دولة؛ في أفق بلورة شراكة متوازنة؛ هو خيار استراتيجي يمكن أن يسهم في تقديم نموذج واعد على مستوى التعاون جنوب جنوب؛ بعيداً عن كل أشكال الهيمنة والاستغلال.

وفي مقابل التحولات المهمة التي عرفها المغرب في العقدين الأخيرين؛ وما يتصل بذلك من مراكمة تجربة واعدة في مختلف المجالات الاقتصادية والسياسية؛ شهدت القارة الإفريقية في السنوات الأخيرة مجموعة من الإصلاحات أسهمت في تحقيق الاستقرار والتداول السلمي على السلطة في عدد من الأقطار، كما أسهمت في رسم صورة مشرقة عن القارة؛ بعيداً عن الصور النمطية المرتبطة بالحروب والأمراض والمجاعات والانقلابات. وهو ما كان له الفضل في حدوث تطور على مستوى تصاعد نسب النمّو بدول القارة؛ وتحسن ملحوظ في بيئة الاستثمار، وتزايد الاهتمام الدولي بالتعاون مع دول القارة.

فالزيارات الملكية الأخيرة لعدد من الدول الإفريقية (رواندا؛ والغابون؛ وتنزانيا؛ والسنغال؛ ومدغشقر؛ وإثيوبيا)؛ وما تمخض عنها من اتفاقيات تجارية واقتصادية هامة؛ تبرز الرغبة الجادّة للمغرب في تطوير هذه العلاقات، وإعطائها أبعاداً استراتيجية.

فقد أكد الملك محمد السادس في ختام زيارته لنيجيريا على تعهّد المغرب بتقديم الدعم الكلّي والفعّال لهذه الدولة في جهودها «للقضاء جذرياً على الأنشطة الإرهابية ل«بوكو حرام» بنيجيريا والبلدان المجاورة لها في بحيرة تشاد».

ويعكس هذا التعهد انخراط المغرب الاستراتيجي والجدي في مكافحة الإرهاب؛ باعتباره مهدّداً حقيقياً للسلم والأمن الإقليميين والدوليين؛ كما يحيل إلى الرغبة الحقيقية في تعزيز استقرار القارة السمراء، ومواجهة كل ما من شأنه تعطيل مسارات التنمية في هذه المنطقة.

كما يبرز الجدّية التي تطبع رغبة المغرب في تعزيز علاقاته الشاملة مع الأقطار الإفريقية في إطار تعاون بنّاء يشمل مختلف المجالات؛ ويتيح بلورة تعاون وتنسيق دوليين في مواجهة هذه الظاهرة المنفلتة والعابرة للحدود؛ والاستفادة من التجربة المغربية الرائدة بالمنطقة في هذا الخصوص.

ولا تخفى أهمية هذه المبادرة على مستوى تأمين محيط المغرب؛ خصوصاً أن هناك الكثير من المؤشرات التي تؤكد أن الجماعات الإرهابية في المنطقة تنسق فيما بينها؛ وهو ما حصل في عدد من المحطات؛ كما هو الأمر بالنسبة للأزمة في مالي. 

كما يظهر هذا التوجه أيضاً؛ وعي المغرب خطورة هذا التنظيم؛ الذي لا تخفى خطورته بعدما دفع بنحو اثني عشر ألف نيجيري إلى مغادرة ديارهم نحو تشاد، وتداعياته الأمنية والاقتصادية والاجتماعية الأخرى المكلفة على المستوى الداخلي؛ خصوصاً ما تعلق منها بنشر التطرف في بلد سمته التنوع، إلى جانب خطورته على المستوى الإقليمي؛ حيث شارك أعضاؤه في عمليات إرهابية بعدد من دول المنطقة؛ كما أن زعيم هذه الحركة بايع في مطلع عام 2015 قائد تنظيم «داعش» «أبو بكر البغدادي».

لقي التوجه المغربي للعودة إلى المنظمة ترحيباً واسعاً من لدن كثير من الدول الإفريقية؛ بل إن عدداً منها لم يتردد في مطالبة المنظمة بتجاوز خطئها؛ بنزع العضوية من البوليساريو.

إذا كانت العودة إلى المنظمة ستسمح للمغرب بتعميق علاقاته مع الدول الإفريقية؛ والمرافعة بنفسه بشأن قضاياه الحيوية؛ وتكسير منطق الصوت الأحادي الذي ظل يتردد داخل أروقة المنظمة منذ منتصف الثمانينات من القرن الماضي مروّجاً لمغالطات تهم ملف وحدته الترابية؛ فإنها ستسمح للمنظمة أيضاً، بلمّ الشمل الإفريقي وتعزيز التعاون جنوب جنوب؛ والاستفادة من التجربة المغربية في مختلف المجالات.