إياد أبو شقرا

 يستحسن ألا يستغرق المراقب السياسي في إلقاء اللوم على الآخرين عند مراجعة شريط أحداث العام المودّع (2016)، مع أن هؤلاء الآخرين أسهموا إسهامًا كبيرًا في ما وصلت إليه المنطقة.
أقول من المُستحسن، والأكثر حفظًا لماء الوجه أيضًا، أن يكون لدينا - كعرب وكمسلمين - شجاعة الإقرار بالتقصير حيث قصّرنا، تمامًا كما يحقّ لنا تهنئة النفس حيث نجحنا، على الرغم من أن النجاحات كانت نسبية ومحدودة، وبعضها أنجز في سياق قطع الطريق على ما هو أسوأ.
في المقابل، بديهي أن إخفاقاتنا الكثيرة خلال الأشهر الفائتة تهدّد بإدخال المنطقة في حلقة مُفرغة من الإحباط المؤدي إلى العنف، ومن ثم، لا بد أن يولّد كبح العنف بصورة عشوائية مزيدًا من الإحباط والشعور بالقهر والحقد.
هذا الواقع المؤلم ليس حكرًا على دول العالمين العربي والإسلامي، بل بات ينطبق على العالم بأسره في ظل «عولمة» الإرهاب بمختلف أشكاله، فرديًا كان أو تنظيميًا، ومع تصاعد مدّ كراهية الأجانب والشك باللاجئين والاستقواء بـ«الحصون» القومية والدينية في وجه الوافدين من ذوي السحنات الغامقة والديانات المخالفة.
عام 2016 ما كان في حد ذاته مفصلاً تاريخيًا، ذلك أن حالات الإحباط والكراهية والهواجس المتبادلة عمرها عقود، وفي بعض الأحيان قرون. لكن ثورة الاتصالات والإعلام وكذلك سهولة الانتقال والحركة والتفاعل اختصرتا المراحل بصورة غير مسبوقة. وأيضًا، كان للضغوط الاقتصادية دورها البالغ التأثير في تغيير ملامح العلاقات الإنسانية، والخيارات المتاحة بين الدول والكتل والتحالفات الإقليمية والعالمية.
ماذا سيحمل العام المقبل 2017؟ على الأغلب سيحمل مزيدًا من الإجابات الشعبوية السهلة والخطرة على التساؤلات الرصينة عن مستقبل التفاهم والتفاعل بين الأديان والقوميات والثقافات.
ما حصل في بريطانيا مع انتصار حملة الخروج من الاتحاد الأوروبي (البريكسيت) تحت خفق رايات التقوقع وارتفاع أصوات الانعزالية والكراهية للآخر، كان مفترق طريق مهمًا جدًا، أخرج غول الكراهية والعنصرية من الهامش إلى قلب الساحة السياسية. ولئن كانت الجبهة الوطنية في فرنسا قد اقتربت كثيرًا خلال العقود الأخيرة من أن تغدو حقيقة سياسية راسخة وفاعلة، فإن طروحاتها باتت تفرض نفسها حتى على خصومها. ولا أدل على ذلك من استعارة فرنسوا فيّون، مرشح «المؤسسة» اليمينية المعتدلة للرئاسة، معظم سياسات «الجبهة» إزاء الهجرة والأجانب.
وهناك في قلب أوروبا، تواجه ألمانيا اختبارًا سياسيًا خطرًا، وهي التي كانت خلال 2016 طليعة الدول الأوروبية التي تعمل بإنسانية وانفتاح مع محنة اللاجئين، ذلك أن قوى اليمين المعادي للأجانب واللجوء، وطليعتها «حزب البديل لألمانيا»، مرشحة لتحقيق تقدم انتخابي كبير في الانتخابات المقررة خلال العام المقبل.
وليلة أمس، بالذات، أتيح لي التحاور مع صديق ينتمي إلى الحزب الديمقراطي الحرّ في ألمانيا، وكان كلامه ينم عن قلق بالغ. وبالمناسبة، يُعد الحزب الديمقراطي الحرّ حزبًا ليبراليًا معتدلاً أتاح نظام التمثيل النسبي الألماني له أن يشكل «بيضة القبان» عندما يفشل أي من الحزبين الكبيرين: المحافظ (الاتحاد الديمقراطي المسيحي) والاشتراكي (الحزب الديمقراطي الاجتماعي) في تحقيق غالبية مطلقة. ولذا نجح الديمقراطيون الأحرار عبر السنين بقيادة زعماء مثل فالتر شيل وهانز ديتريش غينشر في الدخول في ائتلافات حكومية - مع الحزبين - ضمن فيها لألمانيا حكومات معتدلة. هذا الحزب اليوم - كما أبلغني الصديق - قد لا يتمكن في الانتخابات المقبلة من تجاوز حاجز الـ5 في المائة من الأصوات المؤهل لدخول مجلس النواب. بل يرجح أن تذهب أصوات كثيرين من مناصريه ومناصري أحزاب أخرى لـ«حزب البديل»، لأنهم - كما قال لي - «قلقون من انعدام الضوابط وسياسات التحكم بالهجرة، وليس لأنهم بالضرورة عنصريون».
ثم هناك الولايات المتحدة، بلد المهاجرين بامتياز...
الولايات المتحدة، كما نتذكر، انتخبت في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي دونالد ترامب رئيسًا تحت وقع خطاباته ووعوده السائرة في اتجاه التخويف من الأجانب، ولا سيما غير المسيحيين منهم. وكما نتذكر أيضًا، ترامب فاز على مرشحي «المؤسسة» الحزبية الجمهورية قبل أن يفوز على منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون. ومن ثم، سيكون لافتًا كيف سيتصرّف، ومن خلفه القيادة الحزبية للحزب الجمهوري، في ملف السياسة الداخلية في موضوعين بالغي التعقيد عرقيًا ودينيًا، هما: الهجرة (ولا سيما، الآسيوية واللاتينية والإسلامية)، والأمن. وملف العلاقات الخارجية، وبخاصة مع روسيا والعالم الإسلامي.
هذا هو المشهد الدولي المُربك الذي تزيده إرباكًا عمليات إرهابية مريضة تنفذها في أوروبا وأميركا، وحتى في العالمين العربي والإسلامي، منظمات متطرفة تدعي احتكار الإسلام الصحيح أو «ذئاب منفردة» يائسة أو مُضلَّلة أو مغسولة الأدمغة.
وأحسب أن جرائم فظيعة بحق الإنسانية، كما شهدنا خلال الأشهر الماضية في حلب - وما قد نشهد قريبًا في الموصل - من شأنها خدمة طروحات التطرّف بالاتجاهين المتعاكسين. ومن دون الانزلاق نحو «نظرية المؤامرة»، من المُستبعد أن تكون القوى العالمية التي تتعاطى مع المنطقة منذ سنوات غافلة عن ردة الفعل المحتملة على تهجير 20 مليون إنسان من العراق وسوريا، والمضي قدمًا في الاستيطان اللاشرعي المتمادي في الأراضي الفلسطينية، وتمدّد قوة إقليمية طائفية متغطرسة مثل إيران في عالم عربي جريح ومأزوم.
لا يُعقل أن تكون قد فاتت القوى العالمية، بعلمائها وباحثيها وخبرائها العسكريين والجامعيين، المُسببات والتراكمات التي فاقمت مشاعر الغبن والإحباط واليأس... فتُرجمت في الشوارع ومرافق المواصلات ومراكز التسوق - بل حتى دور العبادة - جرائم إرهاب انتحارية بشعة.
لا يُعقل، ألا نميّز نحن، العرب والمسلمين، الفارق بين تفهّم أسباب التعصّب والتطرّف من ناحية... وتبريرهما والدفاع عنهما من جهة أخرى.
ولكن، اليوم في أوطاننا آفات نحاول ألا نقرّ بوجودها. ومشاكل جوهرية تمس حياتنا اليومية نفضل الهروب منها والتعمية عليها. والمفارقة أن بين أخطر هذه الآفات - وتظهر كثيرًا في الإعلام المفترض به أنه مسؤول - التطرف في كل شيء... بما في ذلك مهاجمة التطرف!