عبير خالد

هل تعرف بأن المؤسسات الإعلامية التي جيشت الشعب البريطاني للخروج من الاتحاد الأوروبي هذا العام هي نفسها المؤسسات التي دفعتهم للدخول في الاتحاد الأوروبي بعد الحرب العالمية الثانية؟ صحف بريطانية محافظة معدودة ولكنها ذات شهرة واسعة مثل "ذا صن"، و"ذا ديلي ميل" و"ذا ميرور" ساهمت بشكل رئيسي في الخروج من الاتحاد الأوروبي وكان ذلك بدعم إبستمولوجي من شخصيات سياسية معروفة وعلى رأسهم "نايجل فاراج" -رئيس حزب البرلمان "المملكة المتحدة المستقلة"-. بيد أن النقطة الأهم برأيي ليست الاحتكار الإعلامي في السوق الإنجليزي، حيث تهيمن صحف معدودة على بقية الآراء، وليست أيضا التناقض الذي اتسم به هذا الحزب، حيث يقرر أن يدخل الاتحاد الأوروبي في الخمسينات واليوم يقرر الخروج منه تاركا وراءه معضلات اقتصادية وخيمة، ولكن المثير هنا هو التلاعب على حبل الهوية لتوجيه تصويت الشعب. 
في الخمسينات الميلادية نشرت هذه المؤسسات صورا لبريطانيين مع أوروبيين، داعية للوحدة بل وأسرفت في الحديث عن فوائد "القانون الأوروبي المشترك"، مدعيّة بأنه سيؤدي إلى القبض على كثير من المطلوبين أمنيا، كما أن الوحدة ستصنع فرص عمل مشتركة وقد تجاهلت هذه الصحف كل قضية تاريخية يمكن أن تتسبب في التأثير على علاقة بريطانيا بجيرانها. واليوم، بعد 60 عاما على خطاب المحبة والاتحاد استخدمت هذه المؤسسات نفس التوجه لصناعة رأي معاكس، وكان ذلك عن طريق اتهام الأوروبيين بإرسال لاجئين ومدمني مخدرات لبريطانيا، مما أثرّ على الوطنيين وهويتهم. كما هيمن خطاب الفخر بالتقاليد والتاريخ والثقافة على المنشورات الداعية للخروج وقد نشرت هذه الصحف إحصاءات تفيد بأن الأجانب سيطروا على وظائف البريطانيين، فيما ذهب بعض السياسيين المحافظين إلى ما هو أبعد من ذلك، إذ التقوا بمشرّدين في الشوارع، وقالوا إن الدخلاء على الوطن هم السبب في ظاهرة التسوّل. 
وكان أحد عناوين حملات الخروج من الاتحاد الأوروبي "وزارة الصحة أحق بالـ350 مليون جنيه التي ندفعها أسبوعيا لأوروبا"، والحال أنه فورا بعد قرار الخروج من الاتحاد الأوروبي أعلنت وزارة الصحة البريطانية عن إنقاص خمسين ألفا من عدد موظفي الصحة بسبب مشكلات إدارية ومالية. فرغم عدم مصداقية كثير من أخبارهم إلا أنهم حققوا مبتغاهم في كلتا الحملتين بسبب لغتهم البسيطة وتعاطيهم مع قضايا يواجهها الناس بشكل يومي.
أما حملات البقاء في الاتحاد الأوروبي فقد اتسمت بخطاب أكاديمي ثقيل ورغم تحريّه الدقة فإن الناس لم يفهموه ولم يتفاعلوا معه. أضف إلى ذلك أن حملات البقاء في الاتحاد الأوروبي ركزت على اقتصاد الشركات وأرباب الأعمال ولم تركز على مشكلات يومية يواجهها الناس في حياتهم، مثل التشرّد والصحة والقضاء. كمختصين بالإعلام والاتصال نفهم من هذه الواقعة أمرين أساسيين: 1. أن لخطاب الهوية تأثيرا عميقا على غالبية الناس، بغض النظر عن توجّه الناشر. 2. أن الخطاب الأكاديمي العلمي لا يُسهم في نقل رسالة شعبية أو جمهورية.