عرفان نظام الدين

التفاؤل بحدوث انفراجات في الأوضاع العربية الراهنة، خصوصاً في سورية، لا علاقة له بموسم «التنجيم» وتوقعات المنجمين وقراءة الفنجان الرائجة في الفضائيات ووسائل الإعلام العربية، بل يستند إلى معطيات ثابتة ومعلومات شبه مؤكدة وتحليلات لمسيرة الأحداث وتطوراتها وحتمية التاريخ ودورته الطبيعية.

فكل الدلائل تشير إلى أن ٢٠١٧ سيشهد انفراجات واسعة قد تؤدي إلى بدء مرحلة البحث عن حلول للأزمات والتوصل إلى اتفاقات لوقف إطلاق النار، تمهيداً لوقف الحروب ووضع حد لنزيف الدم واستنزاف الطاقات والثروات ودمار الحجر والبشر.

وإذا كان التفاؤل مشروعاً وطبيعياً، يمكن الجزم بأن الفرج قريب من دون إغفال احتمالات حدوث تفجيرات أو عمليات أمنية خطيرة للعرقلة، لأن طريق التسويات والحلول وعر وطويل ومعقد ومزروع بحقول الألغام، بعدما وصلت الأمور عام ٢٠١٦ إلى ذروة التعقيدات وقمة الوحشية في القتال وتغييرات درامية في ميادين المعارك وترسيخ الحدود الافتراضية للدول وفق محصلة المحصاصات المحلية والإقليمية والدولية والمذهبية والطائفية والعرقية.

وهذا الأمر ينطبق على الدول التي تشهد حروباً عبثية تتصارع فيها القوى والمصالح وتتقاطع معها الأهداف والغايات وتتشابك مع مصالح أجنبية لتصب كلها في مصلحة إسرائيل، بكل ما ترسمه من مؤامرات ومخططات تتماشى مع المطامع الأساسية التي تقوم على الشعار الاستعماري القائل: «دولتك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل»، ولو نظرنا الى سير المعارك وخرائطها لوجدنا أن حدود النيران تتماشى مع الأهواء البعيدة للصهاينة الرامية إلى تحلل الدول الواقعة في إطارها لتنقضّ إسرائيل عليها وتنفذ مآربها العدوانية.

وهذا سبب آخر للدعوة إلى الحذر وعدم الاستمرار في سياسة الإنكار ورفض الحلول الوسط التي لا يخرج منها غالب ومغلوب، لتكون فيها الأوطان هي المنتصرة ومعها مصير العرب وحقوقهم ومقدساتهم الإسلامية والمسيحية في فلسطين والقدس الشريف وغيرها على امتداد الخريطة العربية. كما أن هذا الخطر الداهم يجب أن يكون الدافع الرئيس لإحلال السلام قبل أن يفوت الأوان ويحدث ما لا تحمد عقباه، بحيث لا ينفع الندم. يضاف إلى ذلك ما وصلت إليه الأوضاع المعيشية والإنسانية والمالية والصحية للشعوب جراء ما جرى خلال السنوات الخمس الماضية، من دون أن يبقى أي طاقة للتحمل والصبر أو الاستمرار في التشرد ونزيف الهجرة واللجوء إلى مخيمات الذل والعار والحاجة، أو اللجوء إلى الدول الأجنبية بحثاً عن مأمن لم يعد متوافراً، وأمان تضاءل مع تصاعد موجات العنصرية والتطرف والعداء للعرب والمسلمين. أما معطيات التفاؤل وأسبابه فمتعددة، وتكاد تطغى على موجات التشاؤم التي يعيشها العرب، والسوريون على وجه التحديد، جراء التدمير المنهجي للبنى التحتية والاقتصاد الوطني ومعظم مقومات الحياة من أمان وغذاء ودواء وتدفئة وسكن آمن تحت وطأة البرد القارس، إضافة إلى معاناة ملايين اللاجئين والنازحين والمشردين والأرامل واليتامى ومعظم المدنيين، عدا بعض المحظوظين. ومن بين المعطيات الإيجابية على سبيل المثال لا الحصر:

- إن مؤشرات بدء البحث عن صفقة اتفاقات لوقف الحروب تتجمع مع حدوث تغييرات في ميادين المعارك وفي السياسات والمواقف الدولية، وأبرزها انتهاء عهد الرئيس الأميركي باراك أوباما ليحل مكانه في البيت الأبيض الرئيس المنتخب، المثير للجدل، دونالد ترامب، وهو قادر على فتح خطوط تواصل مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعدما مهّد لذلك خلال حملته الانتخابية وبعدها.

فمهما حاولت الأمم المتحدة والفوضى الإقليمية والدولية التوصل إلى اتفاقات أو فرض حلول، فإن الفشل سيكون بالمرصاد ولن تتمكن من التقدم قيد أنملة من دون ضوء أخضر من واشنطن وموسكو ومتابعة لأدق التفاصيل وتأمين المصالح. وهذا ما كان مستحيلاً في عهد أوباما المدموغ بالتخاذل واللامبالاة والسقوط في فخ مكر فلاديمير بوتين وألاعيبه، بينما أبواب التفاهم تبدو مفتوحة في عهد ترامب الذي سيتسلم مهماته خلال أسابيع قليلة.

- تطورات الميدان تفرض على جميع القوى المتورطة في الحروب الرضوخ للواقع ومسايرة الاتفاق الأميركي- الروسي المعدّ والمشاركة به بدلاً من الرضوخ للإملاءات. وهناك الآن سباق بين هذه القوى لحصد أكبر مقدار ممكن من المكاسب والحصص عبر عرض المساعدة لتمرير الحلول أو عرقلتها في شكل أو آخر.

- إن حتمية التاريخ وواقع الأحوال ووصول الأمور إلى حافة الخطر هي عوامل تشجع على القبول بالحلول ومنع الوصول إلى حافة الانهيار التام، والاقتناع بأن الاستمرار في سياسة الإنكار والتعنت سيؤدي إلى ضياع المكاسب والانتحار الحتمي.

وأكبر دليل على بدء التحرّك «إعلان موسكو» الذي جرى التوصل إليه في اجتماع وزراء الخارجية والدفاع في روسيا وإيران تركيا، وجرى تحديد أسس السلام في سورية من وجهة نظرهم، وهي وقف إطلاق النار الشامل وإيجاد حل سياسي بين المعارضة والنظام وعدم البحث في إسقاط النظام برئاسة بشار الأسد، إضافة إلى الدعوة إلى استئناف مؤتمر جنيف للسلام.

كل حرب تنتهي إلى سلام مهما طال أمدها، وكل أزمة لا بد من أن يجري التوصل إلى حلول لها أو إلى تسويات الحل الوسط التي لا يخرج منها أي غالب أو مغلوب. ومن كان بيده الحل والربط ويزعم أنه قادر على الحسم وحده، فليتقدم بعرضه ويضع حداً لهذه المآسي ويدخل التاريخ من أبوابه العريضة.

- الأمور وصلت إلى حدودها القصوى، وحققت ما كان يسعى إليه كل من ساهم في إشعال نيران الحروب أو ساهم في إذكاء نارها أو تعمد عدم السعي إلى إخمادها، وإن كان المخطط يرمي إلى تقسيم سورية والعراق واليمن وليبيا وربما بعض الدول الأخرى التي تنتظر دورها المشؤوم.

أما إذا استحال المضي في مؤامرة التقسيم، فإن تغيير خرائط حدود «سايكس- بيكو» التي انتهى مفعولها وصرنا نترحم عليها بعد قرن من الفرض والإكراه، أصبح حتمياً إن بالنسبة إلى بحث إقامة فيديراليات الأمر الواقع أو بفرض لامركزية موسعة انسجاماً مع الحدود التي رسمتها الحروب على أسس طائفية ومذهبية وعرقية، على رغم معارضة قوى محلية وإقليمية، مثل تركيا وإيران وسورية لإقامة دولة مستقلة للأكراد.

- إن الدول الكبرى ذات المصالح الأكبر والمستفيدة من الحروب تقاسمت حصصها وحصلت على ما كانت تطمع به وأقامت قواعد على أرض الواقع، وهيمنت على مصادر الثروة النفطية والغاز على امتداد الساحل السوري وصولاً إلى شمال سورية والعراق، فقد حصلت روسيا على ما تريد وحقق بوتين حلم القياصرة القديم بالوصول إلى المياه الدافئة والتمركز فيها في شكل دائم، فيما حققت الولايات المتحدة عملياً ما كان يتردد عن سعيها للهيمنة على الثروات النفطية العربية في المناطق الكردية!

- إن الحرب المزعومة على الاٍرهاب استنفدت أغراضها جراء تحقيق الأهداف المطلوبة من هذه الآفة التي لم تحرق بنيرانها سوى العرب والمسلمين، ولم يتبق سوى خطوات قليلة ليسدل الستار عليها ويجري تنفيس «بالون» «داعش» والقواعد الأخرى في الموصل والرقة ودير الزُّور وغيرها، إن لم تستكمل المؤامرة بترك «مسامير جحا» في الدول العربية للابتزاز والتخويف وإشاعة الفوضى بعد النجاح المنقطع النظير لقوى محلية وإقليمية ودولية في استخدام هذه «الفزاعة» لتفتيت العرب وتشويه صورة الإسلام وتقسيم المسلمين، وإشعال نار الفتنة بين السنة والشيعة وتحويل حربهم مع الأعداء إلى حروب إسلامية - إسلامية لا نهاية لها.

كل هذا يحدث و «أهل البيت بالدف ضاربون»، يرقصون ويعيشون حال إغماء وعربدة ولا مبالاة إزاء ما تتعرض له أوطانهم وأمتهم ومقدساتهم وثرواتهم، ويتفرجون على شلالات الدم على شاشات التلفزيونات، ثم ينتقلون إلى برامج التخدير والضياع والتفاهات بعدما ماتت نخوة المعتصم وتحولت إلى تخاذل وضياع وتآمر.

وعلى رغم هذا الهوان، فإن أمر الحل والربط لم يعد في أيدي العرب، بل في أيدي من حصل على الجوائز الكبرى وبدأ الآن البحث عن حلول تضمن المصالح المكتسبة بالقوة. وبكل أسف، فإن هذا الواقع هو الدافع الرئيس المتبقي للتفاؤل بأن يكون ٢٠١٧ عام الانفراجات أو نقطة البدء في مسيرة وقف الحروب، على رغم الاعتراف بأن تداعياتها وأخطارها ستستمر لسنوات طويلة. ومن الله الفرج ومنا الدعاء له، عز وجل، بأن يحجب دماء العباد وينجي أمتنا من شرور الحروب ويعيد إليها السلام والأمان... وَيَا أمان الخائفين.