صالح أبوأصبع

نعيش أجواء الاقتتال والتوتر وعدم اليقين والشك وعدم التسامح والتعصب الفكري والقبلي والطائفي وعدم الثقة وفقدان الشعور بالأمان والأمن الاجتماعيين في بعض دول العالم العربي.

نعيش ذلك مع فقدان القدرة على التواصل مع بعضنا ومع الآخرين بطريقة فعالة. أطياف المجتمع تعيش في حالات جزر منعزلة. شرائح المجتمع المتنوعة، المرأة والرجل، الشباب، والمسنين، الخ. إنها فوارق ليست اقتصادية وليست مراكز اجتماعية فحسب. إنها حواجز ثقافية واتصالية تحيلنا في الوطن العربي إلى ظرف استثنائي يغمره الاقتتال والدمار.

ولم يفجر داعش المساجد والكنائس والمقامات الدينية فحسب بل فجر معه في المجتمع العربي والإسلامي حالة التنوير، فالتنوير ليس ظرفاً استثنائياً إنه حالة وعملية تنبع في المجتمع من خلال المعاناة والنضال وأدواته هي العلم والبحث العلمي وحرية التفكير والعقيدة، فكما حصل في الغرب كان التنوير تتويجاً لنضالات من أجل سيادة العقل والمساواة والتسامح واحترام كرامة الإنسان والحقوق وحرية الفكر والمعتقد.

هذه حالة عرفتها المجتمعات الإسلامية في ظل الخلافة الأموية والعباسية، وعرفتها الأندلس. وكنا نجد أخلاطاً من الأجناس والمعتقدات تتعايش معاً، ويتبوأ فيها أفراد من أديان وأصول مختلفة مراكز مرموقة في تلك المجتمعات.

وما كان للنهضة التي نفتخر بها في تاريخنا الإسلامي مردّه إلى الدين كعقيدة فحسب، بل يعود إلى ما وفّره هذا الدين من التسامح وحرية الفكر والمعتقد في عيش مشترك، مما أتاح نقل العلوم والفلسفات عن اليونان والهند وغيرهما دون أي حرج، لتكون الحضارة الإسلامية في العصور الوسطى هي قمة الحضارة الإنسانية التي كان الأوروبيون إليها يرنون ويتعلمون لغتها وينقلون تراثها.

والذي يجري في بعض دول الوطن العربي من مظاهر التكفير اليوم لا يمكن أن نفهمه دون معرفة الظروف التي آلت إليه من حالة الإرباك الفكري والتعصب والإقليمية والطائفية والعشائرية.

إن نظرة إلى ستينات القرن العشرين تحيلنا إلى مجتمعات عربية تمور بالحلم القومي في النهوض والعدالة والحرية والوحدة وتحرير فلسطين. مجتمعات عرفت تأسيس العديد من الجامعات العربية، وشهدت نهضة علمية وفرت المدارس والجامعات التي أصبحت متاحة لعامة الناس، وشهدت نهضة صحفية وإعلامية واسعة، وشهدت نهضة فنية كبيرة في مجالات المسرح والسينما والفن التشكيلي والموسيقي والغنائي... وقادت جميعها إلى حركة تنوير شاملة في المجتمعات العربية.

وأتاحت ثقافة التنوير هذه المجال لكل الأفكار والأيدولوجيات أن تتواجد وأن تتعايش معاً، وكانت الخلافات الفكرية والحزبية ليست سبيلاً للتناحر بل للتنافس. وكنا نجد في الأسرة الواحدة من ينتمون فكرياً إلى اتجاهات مختلفة، ويعيش في الحي الواحد المسلم بجانب المسيحي، لا شيء كان يدعو إلى التناقض أو الصراع، كان المجتمع فيه لحمة الانتماء إلى الوطن، ومعتقدات الفرد وأفكاره تخصه وحده، فالدين لله والوطن للجميع.

أظن أن هزيمة حزيران كانت مفترق الطرق، وكانت بداية التمزق في بعض المجتمعات العربية. ليس فقط لأن الهزيمة حطمت الأحلام العربية في التحرير والوحدة، بل لأنها أيضاً هزمت الأيدولوجيات السائدة، وكرّست مفاهيم لا تتيح الفرصة للتعبير عن الرأي، وتخنق بذور الديمقراطية في المجتمعات، ولذا كان نمو الفكر الأصولي نمواً سريعاً، للبحث عن خلاص يكون هو السبيل للخروج من أزمة المجتمعات.

كانت تنمو قوى دينية متعصبة لا تقرأ الدين بعين العصر الذي تعيشه، قوى وجدت من يُسهّل وجودها ومن يدعمها مالياً، ليست في حقيقتها خدمة للدين بل لتحقيق أجندات سياسية، في ظل ظروف قمعية تعيشها بعض المجتمعات العربية، مجتمعات يعشعش فيها الفساد والوساطة والمحسوبية والظلم الاجتماعي، مجتمعات تنعدم فيها الديمقراطية وتزيف فيها الانتخابات وينجح فيها الحاكم بنسبة 99%، ويظل الحاكم الجمهوري على الكرسي إلى أن يموت أو يُنتَزع منه انتزاعاً، ويسعى لتوريث الحكم لأبنائه، شهدنا هذه الحالة في سوريا وكانت مصر وليبيا واليمن تسير على نفس الخطى.

لقد كانت الحالة العربية مهيأة للبحث عن حلول، وكانت هذه الحالة مهيأة أيضاً لتنفيذ المخططات الغربية والصهيونية لتمزيق الوطن العربي الممزق إلى كيانات أكثر تمزيقاً، وكان من السهل اختراق الحالة العربية من قبل الغرب، بدعمهم القوى التي تعمل على إذكاء الصراعات الطائفية ليبرز على السطح تمزيق وحدة الدين الواحد، وليصبح الصراع في بعض مظاهره ليس صراعاً على السلطة، ولكنه صراع على صحة العقيدة لدى جميع مكونات المجتمع الشيعة والسنة والعلويين، والأزيديين والمسيحيين والأكراد والأمازيغيين... الخ.

هكذا يتمزق المجتمع بينما ينعم الكيان الصهيوني بالراحة، ويعمل على تقسيم المسجد الأقصى وبناء الهيكل وللأسف إن العرب ما زالوا يتفرجون.