محمد السماك

أسفرت الحرب العالمية الأولى عن تفكك إمبراطوريتين كبيرتين. الامبراطورية العثمانية، والإمبراطورية النمساوية – الهنجارية. وأدى هذا التفكك إلى قيام سلسلة من الدول الجديدة على قاعدة الوطنية والقومية.

ذهبت المشاعر القومية إلى حد قيام حركات من نوع النازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا، والعنصرية المنغلقة في العديد من الدول الأوروبية الأخرى، مما أدى إلى نشوب الحرب العالمية الثانية. أسفرت تلك الحرب عن سقوط حركات اليمين القومي المتطرف مما فتح الباب تدريجياً أمام قيام الاتحاد الأوروبي، ذلك أن أهم صفة يتمتع بها الاتحاد هو أنه عابر ليس فقط للحدود، بل عابر للقوميات.

اليوم تشهد أوروبا حركة في الاتجاه المعاكس، أي باتجاه إعادة إنتاج الأحزاب القومية اليمينية المتشددة. وإعادة الاعتبار إلى الشعارات النازية والفاشية من جديد..ومن الأمثلة على ذلك:
أولاً: فرنسا: كانت الجبهة الوطنية التي تترأسها مارين لوبن قد حصلت في الانتخابات الأخيرة على 17 بالمائة من الأصوات. يومها اعتبر ذلك مؤشراً خطيراً لطبيعة التحول الفرنسي نحو اليمين المتطرف. الآن تتمتع الجبهة بتأييد 30 بالمائة من الأصوات. وقد تُحقق لوبن المفاجأة الكبرى بفوزها بالرئاسة الفرنسية في العام المقبل. ومن برنامج الجبهة وقف الهجرة، وإبعاد الأجانب عن فرنسا، وفرض القيم والعادات الوطنية الفرنسية مقياساً وحيداً للمواطنة. والهدف من كل ذلك هو الإسلام والمسلمين.

ثانياً: ألمانيا: في الانتخابات العامة الأخيرة التي جرت قبل ثلاث سنوات، حصلت حركة اليمين المتطرفة المعادية للأجانب عامة وللمسلمين خاصة (أ – أف – دي) على أقل من خمسة بالمائة من الأصوات. وهي نسبة لا تسمح لها بالتمثل في البرلمان. ولكن في شهر مارس الماضي جرت انتخابات فرعية في ثلاث ولايات حصلت هذه الحركة «النازية الجديدة» على ما يتروح بين 15 و24 بالمائة من الأصوات.

ثالثاً: بولندا، كان يكفي لزعيمة الحزب اليميني المتشدد «بيتا زيدلوك» أن ترفع شعار حملتها الانتخابية: «لا للمهاجرين، لا للمسلمين» حتى تفوز بالأكثرية المطلقة.. وتتولى رئاسة الحكومة.

رابعاً: الدانمارك، ففي الانتخابات العامة التي جرت عام 2011 مُني حزب الشعب الدانماركي بهزيمة منكرة، بحيث إنه لم يحصل إلا على 12 بالمائة فقط من الأصوات. ولكن في الانتخابات التي جرت في عام 2014 حصل الحزب على 21 بالمائة. والشعار الذي يرفعه الحزب والذي ضاعف من شعبيته هو معاداة المسلمين تحديداً وربما حصراً.

خامساً: بريطانيا:

حتى في بريطانيا التي تعتبر تاريخياً من أكثر الدول الأوروبية انفتاحاً على المهاجرين، انقلبت الحالة رأساً على عقب. يترجم ذلك تصويت الأكثرية من الناخبين البريطانيين إلى جانب الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، ليس كرهاً بالاتحاد، ولكن رغبة في إغلاق باب الهجرة من الاتحاد إلى بريطانيا. تترافق هذه النماذج من المتغيرات في المجتمعات الأوروبية، مع تصاعد عمليات الاعتداء على المهاجرين عامة، وعلى المسلمين خاصة، حتى أن الحكومة البريطانية اضطرت إلى إعداد قانون جديد يشدد العقوبات على مرتكبي أعمال الكراهية العنصرية أو الدينية. تعزز من مشاعر الكراهية الأعمال الإرهابية التي تعرضت لها فرنسا وبلجيكا وألمانيا مؤخراً.. والتي ارتكبها إرهابيون باسم الإسلام تبين أن بعضهم من المهاجرين الجدد، أو القدامى، الأمر الذي عزز من مشاعر الربط بين الهجرة والإرهاب.

من هنا ترتفع علامات الاستفهام الكبيرة، منها: هل تؤدي مشاعر الكراهية ضد الأجانب وضد المسلمين إلى إعادة إنتاج الانتماءات القومية اليمينية المتشددة، التي هيمنت على أوروبا قبل الحرب العالمية الثانية؟ وهل يتحول المسلمون في أوروبا إلى أقلية دينية مضطهدة على غرار ما حدث للأقلية اليهودية؟ وهل تؤدي هذه المتغيرات إلى انفراط عقد الاتحاد الأوروبي كاتحاد عابر للقوميات والأديان؟

يعزز تصاعد حركات اليمين القومية في أوروبة صعود حركة مماثلة في الولايات المتحدة يمثلها دونالد ترامب المرشح للرئاسة الأميركية. فحركته تقوم على أساس معاداة الهجرة والمهاجرين وتحديداً المسلمين. وذلك على النقيض من توصيف الرئيس الحالي باراك أوباما للولايات المتحدة بأنها دولة مهاجرين. ولكن رغم كل الأخطاء القاتلة التي ارتكبها ترامب، ورغم الحملات الانتقادية الشديدة واللاذعة التي تعرض لها في معظم وسائل الإعلام الأميركية، وحتى من داخل الحزب «الجمهوري» نفسه، فإنه يتمتع بشعبية تعكس مدى تغلغل مشاعر الكراهية ضد المسلمين خاصة والمهاجرين عامة في المجتمع الأميركي. في أوروبا أقامت المجر شريطاً شائكاً على طول حدودها لمنع دخول المهاجرين إليها –وعبرها- إلى ألمانيا. وفي الولايات المتحدة، أعلن دونالد ترامب أنه سيعمل فور وصوله إلى البيت الأبيض على إقامة جدار فاصل على طول الحدود مع المكسيك لمنع المكسيكيين من دخول أميركا. أخلاقياً لا فرق بين الأمرين. أنهما يؤشران على حقيقة عنصرية واحدة يغمض العالم عينيه عن رؤيتها، ويعرفها الفلسطينيون جيداً من خلال جدار الفصل العنصري الذي أقامته إسرائيل على طول الضفة الغربية!