تونس: طارق القيزاني

تونس في معمعة جديدة هذه الأيام. والسبب في ذلك الجدل المتصاعد بشأن مقترح «التوبة» الذي يهدف للتمهيد إلى عودة المقاتلين التونسيين، ممن غرر بهم وتورطوا في أعمال إرهابية خارج البلاد. ولم يظهر هذا المقترح حتى الآن كمشروع قانون أو مبادرة، لكنه ظهر فجأة على السطح، وبدا وكأنه جس نبض للرأي العام، بعد أن لمح الرئيس التونسي الباجي قايد السبسي قبل أيام إلى أن الدستور يتعارض مع أي إجراء لمنع التونسيين من العودة إلى بلادهم، قبل أن يتدارك ويؤكد بعد ذلك أن قانون مكافحة الإرهاب هو الفيصل في التعامل مع الراغبين في العودة. ولكن الحديث لم يهدأ عن فكرة عرض فكرة «التوبة» على المقاتلين، ما فجر تجاذبات سياسية حادة بين الأحزاب والمنظمات الوطنية ذات الثقل السياسي.

عارضت أغلب الأحزاب السياسية هذا المقترح، إلى جانب الاتحاد العام التونسي للشغل أكبر المنظمات الوطنية في تونس وذات الثقل السياسي، فضلاً عن نقابات أمنية، كما تظاهر ممثلون عن المجتمع المدني هذا الأسبوع أمام مقر البرلمان، لتأكيد الرفض الشعبي لمثل هكذا خطوة.

وحذرت النقابات الأمنية في بيان لها من «صوملة» تونس عبر «قانون التوبة»، مشيرة إلى أن «القبول بعودة الإرهابيين عن طواعية أو إجبارياً في ظل الترتيبات الدولية الحالية لحل الأزمة الإقليمية، سيشكل دعماً لتوسع رقعة الإرهاب وانتشاره». كما أوضحت أن «الإرهابيين تمرسوا وتدربوا تدريباً عسكرياً محترفاً، واستعملوا كل أنواع الأسلحة الحربية المتطورة، وتعودوا سفك الدماء والقتل وتبنوا عقيدة متطرفة». وأن عودتهم إلى تونس ستدفع نحو ظهور خلايا نائمة بالداخل تضاهي جيشاً كاملاً قادراً على إحداث الخطر. 

وفي سياق ردود الفعل الغاضبة أيضاً، اعتبر الاتحاد العام التونسي للشغل أن التسويق لفكرة «حق عودة التونسيين إلى بلادهم» كمدخل لتمرير التطبيع مع الإرهابيين، يعد تنكراً لدماء الشهداء الذين سقطوا تحت غدر الإرهابيين، وهو تغطية على بشاعة الجرائم التي مارسها الإرهابيون تحت أنظار العالم، وهو تعدٍ على إرادة التونسيات والتونسيين الذين وقفوا موحدين ضد الإرهاب، ودعموا الأمن والجيش في حربهم على الإرهاب.

ويطالب الاتحاد بملاحقة المتورطين في شبكات تسفير التونسيين إلى بؤر التوتر باعتباره جريمة بحق تونس وبحق شعوب عربية كثيرة تورطت فيها شبكات المتاجرة بالبشر، وعصابات السلاح وتجنيد المرتزقة. 

يرجع المحلل والخبير الجامعي خالد عبيد في تحليله لصحيفة «الخليج» موجة الرفض الشعبية لعودة المقاتلين من الخارج باعتبار أن هؤلاء، حسب رأيه ، خرجوا في وقت ما في غفلة من وعن تونس، في ظل ظروف معينة أدت إلى خروجهم بذلك العدد الكبير من المجندين بين الشباب.

ويقصد عبيد من وراء ذلك تزامن حالات التجنيد الواسعة في صفوف الشباب من قبل الجماعات السلفية وشبكات التسفير، أثناء فترة الانفلات الأمني التي أعقبت الثورة، بجانب الفترة الأولى لصعود الإسلاميين إلى الحكم في نهاية 2011، وحتى بداية 2014، في ظل التحالف الذي قادته حركة «النهضة» الإسلامية.

وتلاحق اتهامات للحركة الإسلامية الشريكة في الحكم اليوم بالتراخي في صد موجات التجنيد في المساجد والأحياء الشعبية الفقيرة، والتي أدت إلى فقد الكثير من العائلات التونسية لأبنائها في العراق وسوريا وليبيا.

وأشار عبيد إلى أنه ليس هناك رغبة جدية اليوم في تونس لحسم هذا الملف المعقد والخطير، باعتبار أن أحد الأطراف الرئيسية المعنية به يوجد في سدة الحكم. كما أوضح أنه بدل إعادة استقبال المقاتلين فإن المقترح الموضوعي يتمثل في تعديل الدستور لسحب الجنسية منهم باعتبارهم بايعوا تنظيم «داعش» الإرهابي وزعيمه، وتخلوا بالتالي عن جنسيتهم التونسية.

لكن على الرغم من موجات الرفض، فإن السلطة في تونس يبدو أنها تواجه ضغوطاً دولية اليوم أكثر من أي وقت مضى لاستيعاب «أبنائها» أو ترحيل ممن يشتبه بضلوعه في شبكات إرهابية في الخارج، أو حتى المهاجرين غير الشرعيين، وذلك بعد الغضب الأوروبي الناجم عن حادثة الدهس في برلين التي تورط فيها التونسي أنيس العماري، وهي الحادثة الثانية في أوروبا خلال أشهر قليلة، بعد حادثة نيس الفرنسية التي تورط فيها تونسي أيضاً.

وتأتي هذه الضغوط أيضاً في ظل الحديث عن تسويات متوقعة للأزمات في الشرق الأوسط، خصوصاً في سوريا، وإمكانية إلقاء الفصائل المقاتلة هناك السلاح، ومن بينهم عدد كبير من التونسيين.

ويساور قلق كبير التونسيين من احتمال عودتهم لجهة أن أغلب المفرج عنهم من السجون في ظل قانون العفو التشريعي عقب ثورة 2011، ومن بينهم المتورطون في قضايا إرهابية، عادوا مرة أخرى للانخراط في العمل المسلح، وفي مقدمتهم زعيم تنظيم «أنصار الشريعة» المحظور سيف الله بن حسين والملقب بأبي عياض.

وبين نور الدين المباركي المحلل السياسي والخبير في الحركات الإسلامية أنه لم يحن بعد الحديث عن استراتيجية وطنية واضحة في التعاطي مع العائدين من بؤر التوتر، رغم أن الرئيس السابق المنصف المرزوقي كان قد طرح فكرة صياغة مشروع «قانون التوبة» لكنه لم يظهر حتى الآن إلى العلن.

وأبرز المباركي أن هناك تخوفاً حقيقياً من الجميع في تونس من عودة هؤلاء الإرهابيين، لأنهم لن يعودوا كمواطنين عاديين وإنما يحملون مشروعاً يتعارض مع الدولة المدنية والديمقراطية في تونس، إذ سبق أن تحدث قادة «داعش» عن خططهم عن عودة المقاتلين لتشكيل ولايات جديدة في بلدانهم الأصلية.

وتفجر أرقام العائدين من القتال في الخارج مسألة خلافية أخرى في تونس ترتبط بافتقاد الدولة مؤسسات سجنية كافية لاستيعاب الموقوفين منهم، خاصة أن الوضع الحالي للسجون يشير إلى حالة اكتظاظ بنسبة تفوق 150 بالمئة.
كما تثار أسئلة أيضاً بشأن مدى قدرة تونس على توفير مرافق قادرة على تأهيل العائدين نفسياً، ومدى استعدادهم للقيام بمراجعات والتخلي عن أفكارهم وإعادة إدماجهم اجتماعياً.

وتميل الجماعات الموالية لفكرة حق العودة و«التوبة» إلى الاستناد إلى نماذج دولية في ذلك، مثلما حدث في الجزائر في فترة ما مع قانون الوئام المدني، وتجارب أخرى في دول آسيوية. وتعتبر هذه الجبهة أن مسؤولية الدولة في تحمل تبعات «المارقين عن القانون» من مواطنيها.

وتتصدر حركة «النهضة» الإسلامية هذه الجبهة بدعوتها إلى توظيف كل القطاعات، بما في ذلك أجهزة القضاء والشرطة والتربية وعلماء النفس والاجتماع والإعلام للتعاطي مع هذا «المرض».

ويوضح المهدي بن مبروك وزير الثقافة السابق في تونس خلال حكم التحالف الإسلامي، وكاتب متخصص في التيارات الإسلامية والمسائل الثقافية، لصحيفة «الخليج» أن قضية العائدين تطرح اليوم على مستوى دولي في علاقة بمسار المعارك في الشرق الأوسط، وهو ما يدفع إلى الخوض في مسألة الإدماج لاحقاً لهذه العناصر، لأن معدل الأعمار في العموم يتراوح في الغالب ما بين 20 و 30 عاماً، مع الأخذ بعين الاعتبار العقوبات السجنية التي يمكن أن يقضيها المتورطون في السجونن وهي مدة محصورة في الزمن وسيعقبها خروج السجين إلى الحياة العامة.

وأوضح بن مبروك في تحليله أن عدة تجارب تمكنت من عقد مصالحات، من بينها نسبياً في الجزائر، وفي سيريلانكا على وجه الخصوص، ويتلخص ذلك في إعلان مراجعات والتوبة وإعلان القطيعة مع هذا الفكر المتشدد، والبدء في حوار مع هذه الجماعات، مع توفير الرعاية النفسية والاجتماعية والثقافية. ويقتضي بحسب الخبير تشجيع وطمأنة الناس على الإقبال على القيام بمراجعات وعدم دفعهم إلى الأقصى، حتى لا يعودوا من جديد إلى ما كانوا عليه من تشدد.