&كرم سعيد

لم تكن تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس وزرائه أحمد داود أوغلو الداعية إلى توسيع تعريف الإرهاب عشية تفجيرات أنقرة في 13 آذار (مارس) الجاري، التي أدت إلى وقوع 37 قتيلاً وعشرات الجرحى، سوى إشارة إلى استمرار حال الاحتقان مع الأكراد الذين تتهمهم الحكومة بالضلوع في تلك التفجيرات.

ووصلت العلاقة مع الأكراد إلى ذروة التوتر مع تصعيد العمليات العسكرية في جنوب شرق البلاد من جهة، وقيام الجيش التركي منذ منتصف شباط (فبراير) الماضي بمهاجمة مقرات حزب «الاتحاد الديموقراطي» الكردي السوري الذي أحرز تقدماً غير مسبوق باتجاه الحكم الذاتي شمال سورية، وسيطرته للمرة الأولى على بعض القرى الحيوية على الحدود التركية السورية التي تمتد إلى نحو ألف كلم.

ولأن تركيا ترفض قيام كيان كردي مستقل، فهي لم تتورع عن قصف وحدات حماية الشعب الكردي في سورية رغم اعتراض واشنطن وموسكو، التي شكتها إلى مجلس الأمن، فقد وسعت نطاق العمليات العسكرية ضد الأكراد جنوب شرق البلاد، وفرضت منذ 19 كانون الثاني (يناير) الماضي قيوداً أكبر على أجزاء جنوب شرقي تركيا ذي الغالبية الكردية.

والأرجح أن ثمة مؤشرات تلمح إلى استمرار تسخين مشهد الداخل في تركيا مع الأكراد، منها تصاعد عمليات العنف، حيث تعيش أنقرة منذ صيف 2015 حالة إنذار قصوى بعد سلسلة اعتداءات دامية نسبت السلطات أربعة منها إلى «داعش»، وكان أشدها دموية التفجير المزدوج في أنقرة في 10 تشرين الأول (أكتوبر) 2015، وأدى إلى مقتل 103 أشخاص.

لم تقتصر وتيرة العنف المرشحة للتمادي على ما سبق، فعقب التفجير الأخير في أنقرة وترجيح حكومة العدالة والتنمية تورط حزب العمال الكردستاني، وصلت الأزمة الى الذروة بين الدولة والأكراد، إذ طالب أردوغان باستعجال رفع الحصانة عن نواب أكراد جنباً إلى جنب، مع الإسراع في وضع تعريف جديد لقانون مكافحة الإرهاب، معتبراً أنه لا فرق بين إرهابي يحمل سلاحاً وشخص يستخدم موقفه وقلمه لدعم الإرهاب. وزاد: «سواء كان جامعياً أو صحافياً أو عاملاً في المجال الإنساني، هذا لا يغير حقيقة أنهم إرهابيون».

في المقابل، توعد الكردستاني بحقبة جديدة من نضاله كشف عن ملامحها القيادي جميل بايك في مقابلة أجراها مع صحيفة «التايمز» البريطانية، وقال فيها «حتى الآن كانت المعارك ضد الجيش التركي تدور في الجبال فقط، ثم انتقلت إلى المدن، والآن ستدور المعارك في كل مكان»، وأضاف: «نضالنا الآن بات وجودياً: نكون أو لا نكون».

في هذا السياق العام، تبدو التسوية منعدمة، وكان بارزاً هنا تقرير «مجموعة الأزمات الدولية» التي تشارك فيها الخارجية التركية والصادر في 12 أيار (مايو) الماضي، والذي خلص إلى أن «الحكومة أعلنت أنها لن تحاور أوجلان، وأنها ستواصل الحملة العسكرية ضد مسلحي حزب العمال الكردستاني في جنوب شرقي البلاد».

تعقيد تسوية الأزمة الكردية أنهى فرص صمت البنادق بين الأكراد والأتراك، بالرغم من أنها شهدت نقلة نوعية في العام 2012 عندما دخلت الحكومة في عملية تفاوضية مع الأكراد، ولكن بأسلوب جديد، وهو التفاوض المباشر مع زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان المحتجز في جزيرة إمرالي في بحر مرمرة منذ اعتقاله في 5 شباط (فبراير) 1999، وتكللت هذه الجهود بالإعلان في مطلع العام 2013 عن توقيع ما عرف باسم «عملية الحل»، والتي تضمنت إطلاق سراح السجناء تدريجياً، وإعادة محاكمة أوجلان بالتوازي مع انسحاب مقاتلي حزب العمال الكردستاني من تركيا باتجاه شمال العراق مقابل الإقرار بالهوية الكردية الوطنية.

غير أن هذه الجهود ذهبت سدى، مع تباطؤ أنقرة في تنفيذ تعهداتها من جهة، وجموح حزب الشعوب الديموقراطي الذي تأسس في العام 2012 في طرح تصوره للتطلعات الكردية في حكم محلي يحقق الهوية للأكراد، وتجلى ذلك في تصريحات دميرطاش في 25 كانون الأول (ديسمبر) الفائت عن ضرورة إقامة حكم ذاتي في جنوب تركيا وشرقها، بل والحديث للمرة الأولى عن إقامة دولة كردستان، وأثارت هذه التصريحات غضب أنقرة، التي اعتبرتها دعوة صريحة للانفصال.

والأرجح أن دميرطاش ما كان له أن يكشف عن توجهات الأكراد الجديدة لولا دخول موسكو على خط النزاع التركي- الكردي، واستقبالها ممثل الأكراد سياسياً صلاح الدين دميرطاش بحفاوة بالغة في 22 كانون الأول الماضي. وأعلنت موسكو على لسان وزير خارجيتها أنها تدعم البرنامج السياسي لحزب الشعوب الديموقراطي.

أيضاً ربما أغرت انتصارات قوات «حماية الشعب الكردية» الجناح المسلح لحزب «الاتحاد الديموقراطي الكردي» في شمال وشمال شرقي سورية، وإدارة مناطقها ذاتياً منذ كانون الثاني (يناير) 2014، أكراد تركيا باستلهام التجربة، ولكنها في المقابل زادت مخاوف أنقرة التي تبذل قصارى جهدها لوأد طموحات أكراد سورية بإقامة وطن مستقل في الشمال السوري.

الأرجح أن تطورات مشاهد العنف في جنوب شرقي تركيا منذ تموز (يوليو) الماضي ووصولها إلى قلب أنقرة وإسطنبول ومواقع الأمن، وإعلان الرئيس التركي أردوغان الحربَ بلا هوادة ضد حزب العمال الكردستاني وأنصاره، أدخلت الأزمة الكردية التي تدور رحاها من العام 1984 وراح ضحيتها أكثر من 40 ألف قتيل، في غياهب المجهول. وأصبحت الأمور أكثر قتامة مع وصول الحل السياسي بين تركيا وحزب العمال الكردستاني إلى طريق مسدود.

وحشية قصف المناطق الكردية، ومقتل عشرات الأطفال، وردات الفعل الكردية المسلحة على مقار أمنية وتجمعات شعبية أثارت قلق قطاعات معتبرة من الأتراك، الأمر الذي دفع نحو 1200 أكاديمي من تركيا وخارجها، من بينهم نعوم تشومسكي ومايكل لوي وجون كوكس، للتوقيع على عريضة بعنوان «أوقفوا قتل الأطفال- لن نكون شركاء في هذه الجريمة». بيان الأكاديميين لم يحمل دفاعاً عن حزب العمال الكردستاني المحظور أو تبريراً لحمله السلاح، كما لم يطرح رؤية سياسية لإدارة المشهد بين الأقلية الكردية وأجهزة الدولة، ولم يتطرق إلى نقد رؤية الرئاسة للتفاعل مع الأزمة الكردية. هدف البيان تمثل بالأساس في إدانة الحرب، والمجازر التي ترتكب ضد المدنيين وتعد انتهاكاً للقوانين التركية والمعاهدات الدولية. أيضاً حضَّ البيان على وقف حملات الإبادة والقتل التي تنفذ في جنوب شرقي تركيا، واستئناف عملية السلام بين الحكومة وحزب «العمال الكردستاني» لاستعادة السلم الأهلي.

سلوك الأكاديميين، الذي تزامن مع تصاعد العمليات الانتحارية في قلب أنقرة واستهدافها للمرة الأولى مواقع أمنية، أثار غضب أردوغان، الذي توعد عشية تفجيرات أنقرة في 13 آذار (مارس) الموقّعين بدفع «ثمن خيانتهم»، وقال: «من يدعمون أشخاصاً يدمرون حياة أبرياء في شكل مباشر أو غير مباشر لا يختلفون عن الإرهابيين».

لذلك لم يكتف أردوغان بالدعوة إلى تغيير قانون العقوبات وتوسيع تعريف الإرهاب، فقد سبق أن طالب القضاء والمجلس الأعلى للتعليم بتحرك فوري من أجل محاسبة من سمّاهم «الخونة والداعمين للإرهاب»، كما استنكر أردوغان وصف الدولة بأنها «قاتل»، وتحدث عن طابور خامس لقوى خارجية تريد إسقاط تركيا، و «زمرة من الجامعيين انحازت بوضوح إلى معسكر التنظيم الإرهابي (الكردستاني) ونفثت حقدها على الشعب التركي».

مفردات أردوغان عشية التفجيرات ضد الأكاديميين الموقعين على بيان تسوية الأزمة مع الأكراد ربما يزيد من تعقيد الأزمة، لا سيما أن التوتر المجتمعي اتسعت رقعته مع اعتقال الشرطة التركية قبل أيام 21 أكاديمياً ممن وقعوا على البيان لاتهامهم بدعم الإرهاب، ومباشرة جامعات تركية طرد أكاديميين من مواقعهم الجماعية وحرمانهم من التدريس. كما دعم حزب «الحركة القومية» المناهض لأي تسوية مع الأكراد موقف الحكومة تجاه الأكاديميين بينما توعد زعيم المافيا القومي سدات بكار الأكاديميين بـ «الاستحمام في دمائهم قريباً».

المهم أن العنف والعنف المضاد بين الدولة والأكراد قد يكلف تركيا خسارة اقتصادية واجتماعية غير مسبوقة، في ظل اتساع رقعة الاستقطاب المجتمعي والسياسي من جهة، وتراجع معدل النمو والاستثمار الخارجي من جهة أخرى.

القصد، إذا كان العنف الكردي يفاقم الأزمة، فإن استخدام الحكومة العصا الغليظة من دون التعاطي مع مطالب الأكراد، وسلوك أردوغان تجاه الأكاديميين المطالبين بوقف العنف في جنوب شرق البلاد، يضعان الديموقراطية التركية في مفترق طرق، ويطرحان في جانب آخر علامات استفهام حول القيم الديموقراطية التي طالما يطرحها أردوغان ويتباهى بانتخابه ديموقراطياً وسط واحة يصفها هو بالاستبداد.

في هذا السياق العام، تبدو فرص تسوية المعضلة الكردية صعبة، على رغم أن الطرفين يدركان أن لا حل عسكرياً للأزمة، ولكن يحاول كل منهما إضعاف الآخر لفرض شروط التسوية، فهل ينجح عناد تركيا وأسلحتها في فرض سيطرتها على المشهد، أم أن حديث الأكراد عن تحويل الصراع إلى «صراع وجود» مستغلين تعاطف الأكاديميين، قد يرسم سياسة جديدة نحو تسوية متكافئة؟