&سامية الزبيدي

«نعم حبيبتي؟!» بهذا التساؤل الذي بدا بريئاً، امتص ابراهيم (37 سنة) غضب سيدة المجتمع المعروفة (60 سنة) على ثرثرته الجانبية أثناء ورشة عمل، كانت تحاول الإصغاء إلى مجرياتها بتمعن.

لم يكن استهتاراً من ابراهيم بما تهتم به السيدة، لكنه لم يعد مقتنعاً بجدوى كل ما يقوله الكبار في الغرف المغلقة وهو ما عبّر عنه من خلال تعليقات جانبية تشاركها مع أحد نجوم الشباب في قطاع غزة.

ينظر كثيرون إلى تصرف ابراهيم باعتباره نوعاً من الذكاء الاجتماعي في مجتمع لا يزال يعامل الكبير باحترامٍ وهيبة، وأن الشخصية العامة لا يجوز أن «تناطحها» إلا شخصية في وزنها أو أعلى منها.

ففي الحال الفلسطينية لم يعد لمصطلح الشباب دلالة محددة، نتيجة تعويمه سياسياً من قبل النخب السياسية. ففي اجتماعٍ قيادي وصف الرئيس محمود عباس، أحد أعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية ممن تجاوز عامه الـ 70، ضاحكاً: «والله الولد هذا بيطلع منه حاجات». وحينما ينادي أحد قيادات حزب يساري في الخمسينات من عمره، رفاقه في العمر والمسيرة بـ «الشباب» لا يعود لطرق المصطلح وسحبه أي حدود.

وحينما يعقد شباب حركة «فتح» وبعض الفلسطينيين آمالهم على القياديين مروان البرغوثي ومحمد دحلان من ضمن المخارج لمأزق القيادة الفلسطينية الحالي، باعتبارهما «شباب» المرحلة القادمة، وكلاهما في العقد السادس من العمر، تتعقد المسألة أكثر فأكثر.

&

شبابٌ أم كهول

إذاً معضلة الشباب كبيرة، خصوصاً أن الشبان الحقيقيين-على الأقل وفق تعريف الأمم المتحدة الذي يصنفهم بين 16 و24 عاماً، ووفق تعريفات أخرى حتى 35 عاماً- يواجهون معركةً طاحنةً، كثيرٌ منها غير معلن وغير مباشر مع الحرس القديم، الذي يكاد يسيطر على كل مفاتيح العمل السياسي والمجتمعي وحتى الشبابي.

ويقول القيادي في الشبيبة، الإطار الشبابي لحركة «فتح» طاهر أبو زيد (31 سنة) إن «هناك نوعين من القيادات التاريخية، واحد علاقته بالجيل الشاب مغلقة وحذرة تقوم على تقليص دوره وتغييبه، وآخر علاقته به منفتحة ونشطة لإيمانه بما يمتلكه الشباب من قدرات تؤهلهم لدور قادم لا محالة».

ويعتقد أبو زيد أن الشباب الفلسطيني عادةً ما يواجه النوع الأول من القيادات «التي لا ترى إلا نفسها». ويقول: «تتحول العلاقة بين الجيلين من التتابع الطبيعي للأجيال، إلى صراعٍ بينهما، الأمر الذي يدفع الشباب إلى انتزاع دورهم ومكانتهم بأي وسيلة تحقق لهم ذاتهم وتؤمن مستقبلهم».

&

في الميدان لا في الميزان

ولئن لم تكن فرص المواجهة وتحقيق الانتصارات السمة الأغلب في الحال الفلسطينية، كما العربية، في شكل عام، فإن الشباب متهمون بأنهم «يمالئون الكبار حيناً ويتماهون معهم حيناً آخر، وينافقونهم أحياناً أكثر». وهو ما يؤكده الباحث الحقوقي محمد أبو هاشم (36 سنة) فيقول: «هناك فئتان من الشباب داخل الأطر الرسمية والحزبية والأهلية، واحدة متسلقة تحاول تملق الحرس القديم، وهي أداته للسيطرة على شباب آخرين، وأخرى ترفضه جملةً وتفصيلاً، إلا أنها الأقل تأثيراً، خصوصاً أنها لا تمتلك الموارد التي تسيطر عليها الفئة الأولى».

ويتمتع الشباب بأدوار تنفيذية واسعة، تبدأ من كونهم وقوداً للمعارك الداخلية والخارجية، بدءاً من تظاهرة هنا أو اشتباك هناك، وليس انتهاءً بمجابهة الاحتلال بالحجر أو السكين أو الصاروخ. إلا أن قدرتهم على تحويل هذا الحضور الميداني القوي إلى ثقلٍ حقيقيٍ في ميزان رسم السياسات، وصنع القرارات، ظلت تراوح مكانها.

ووفقاً لخريطة وجود الشباب السياسي في مواقع صنع القرار التي رسمها معهد دراسات التنمية وشارك في إعدادها الباحث أبو هاشم، حظي شابان فقط برئاسة وزارة من أصل 250 وزيراً تعاقبوا على حكوماتٍ شكلتها السلطة الفلسطينية منذ نشأتها في 1994 وحتى تشكيل الحكومة السابعة عشرة (حكومة التوافق الوطني) في الثاني من حزيران (يونيو) 2014.

كذلك، فإن عدد النواب من الشباب في المجلس التشريعي خمسة فقط، اثنان منهم كانا في المجلس التشريعي الذي تم انتخابه عام 1996، وثلاثة آخرون في المجلس الأخير الذي تم انتخابه في 2006، قبل أن تتعطل العملية الديموقراطية بالكامل منذ ذلك الحين بسبب حال الانقسام الفلسطيني.

ويقول إسلام موسى (37 سنة) الباحث المشارك في الدراسة التي رسمت خريطة مواقع الشباب في فلسطين، أن متوسط مشاركة الشباب في هيئات منظمة التحرير العليا منذ نشوئها لم يتجاوز 4,7 في المئة.

ويكثر الحديث عن غرق بعض الشباب، خصوصاً في البيئة الحزبية التنظيمية، في الـ «شللية» والـ «كولسة» وهما مصطلحان لأفعال تنظيمية غير نزيهة وغير نظامية يمارسها العناصر لتجنيد الحلفاء تحت الطاولة لمصلحة شخوص أو أفكار معينة، في معظم الوقت تخدم الكبار على وعد أن ينظروا بعين الرضا والترقي للشباب.

بل ويذهب بعضهم إلى حد اتهامهم بـ «الفساد»، فيقول شاب رفض الكشف عن اسمه لحساسية منصبه داخل إحدى المؤسسات الشبابية أن معظم الشبان الذين استطاعوا الوصول إلى مواقع متقدمة، وإن كانت على المستوى التنفيذي فقط- تحولوا إلى مستفيدين من هذه المناصب، بعضهم يعمل من أجل المال، وآخر من أجل الوظيفة والمكتسبات التي يحققونها لأنفسهم ولمن حولهم.

وفي سبيل ذلك، يقول: «يتعلمون الكذب، والنفاق، والخداع، وبعضهم الابتزاز والسرقة من المال العام أيضاً». ويدل على حديثه بأن «معظم قادة العمل الشبابي هم موظفون في السلطة الفلسطينية أو لدى أحزابهم، أو في مؤسسات المجتمع المدني، ويبقون في هذه المناصب على رغم أنهم غادروا سن الشباب، كي لا يتخلوا عن النفوذ والمكتسبات التي يتحصلون عليها بفضل مواقعهم».

ويذهب إلى أبعد من ذلك، فيتهمهم جميعاً بأنهم «ليسوا قيادات فعلية، بل ظِل للكبار فقط، ووجودهم مرتبط بمصالح هؤلاء، الذين تعمدوا إفساد الشباب».

&

الشابات... أدواتٌ أيضاً

أما الشابات فلهن دروب أخرى، قد تغدو صعبة أو سهلة بالنظر إلى الطرق التي يلجأن إليها، في مجتمع ينظر الى المرأة المعارضة والناقدة بقسوة. وداخل الحياة الحزبية بمختلف تجلياتها العلمانية واليسارية والإسلامية، فإن معظم الشابات الفلسطينيات لا يحظين بأي دعم يمكنهن من أن يكنّ حلقة فعل واضح وعلني، نظراً الى أنهن لا يملكن أرصدةً جماهيريةً أو متنفذة داخل الحزب.

وتقول عضو الهيئة الإدارية للشبيبة الفتحاوية في جامعة الأزهر لطيفة شتات(22 سنة): «أشغل منصبي منذ خمس سنوات، وهناك طالبات أخريات من أحزاب أخرى يعود معظمهن إلى بيوتهن، وتنتهي حياتهن السياسية، بعد انتهاء الفترة الجامعية، وكأنهن أدوات انتهت مدة صلاحياتها».

وفي ستينات القرن الماضي، أسس شبان لم تتجاوز أعمارهم الـ25 معظم الأحزاب الفلسطينية، فيما ينظر هؤلاء أنفسهم الآن الى شباب اليوم على أنهم عديمو المسؤولية وقليلو الخبرة. وظتقول شتات: «معظم القادة لا يريدون من يجادلهم أو يقول لهم لا، وأحياناً يقومون بتعنيف الشباب من طريق اتخاذ إجراءاتٍ عقابية في حقهم، لكن في النهاية إن وجدوا إصراراً وإنجازاً يلينون».

وتقر شتات بأن هناك شباباً يتورطون في أعمال «كولسة» و «شللية»، مستذكرةً تجربتها في الترشح للمجلس التشريعي الشبابي في إطار مشروعٍ ممولٍ من برنامج الأمم المتحدة الانمائي UNDP وهي تجربة محاكاة للحياة البرلمانية المغيبة عن الساحة الفلسطينية، فتقول: «على رغم أنها كانت تجربة محاكاة موقتة، إلا أن هناك شباناً «كولسو» (تآمروا) مع نظرائهم حتى يتم انتخابهم في هذا المجلس».

&

تمييز أم تميز؟

وحول ما إذا كانت تتمتع بتمييز إيجابيٍ داخل حزبها كونها أنثى، تقول شتات: «في كل الفصائل هناك اهتمام أعلى بالشابات لأن عددهن أقل بكثير من الشبان، في محاولةٍ منهم لاستقطابهن».

وتعترض على ما سبق عضو الكتلة الإسلامية الإطار الطلابي لحركة «حماس» في الجامعة الإسلامية، التي فضلت عدم التصريح باسمها، مصرة على أن «الاهتمام بالعضوات يوازي الدعم الذي يلقاه الأعضاء من منحٍ وترقياتٍ وامتيازات ورواتب حتى بعد انتهاء المرحلة الجامعية». إلا أنها اتفقت مع شتات على أن معظم الشابات الفاعلات في الحركة الطالبية والشبابية تنتهي حياتهن النقابية إثر انتهاء مرحلة الجامعة، وكأنهن مجرد حجارة شطرنج، فيما تحافظ القيادة على الوجوه نفسها في العمل النسائي.

وبمرارة قالت مبتسمة: «كل شيء يتغير في هذا البلد، إلا المسؤولين، فهم صالحون لكل مكان وزمان، وهم من أسسوا وشقوا الطريق».

وفي الوجه الأشد قتامة من التمييز على أساس الجنس، تقول (س.ر) التي عملت في منصبٍ إداري داخل مؤسسة أهلية إن «جمالها، ودلالها، جعلاها مقربة من المدير، إلا أن ذلك لم ينعكس على وضعها الإداري والمالي». لكنها أقرت بأن ذلك أحاطها بهالة من الهيبة والحضور داخل المؤسسة.

وحول ما إذا كانت الشابات يتعمدن استغلال جنسهن للوصول لمناصب أفضل، استعرضت (س.ر) سير عدد من النساء ما كن ليصلن إلى مواقعهن لولا تمتعهن بدعم الرجال لأنهن نساء أو لاعتبارات عائلية وحزبية.

ويعتقد أستاذ علم الاجتماع الدكتور حسام أبو ستة أن الشباب من كلا الجنسين، أضحوا أكثر بعداً عن الحياة العامة السياسية منها والمجتمعية. ويعزو أبو ستة ذلك إلى «فقدانهم الأمل في التغيير، وتقاعسهم عن تطوير ذواتهم بما يؤهلهم للدفاع عن مصالحهم من جهة، وتشبث الحرس القديم بمواقعه للحفاظ على مصالحه المكتسبة».

ويحمل أبو ستة «الأحزاب الفلسطينية المسؤولية الأولى عن التوظيف السيئ للشباب، اذ عمدت إلى استخدامهم في صراعاتها الداخلية، مقابل تقديم امتيازاتٍ لبعضهم، ما خلق شريحةً انتهازيةً ومتسلقةً لا تُعبر عن مصالح الشباب وقضاياهم، بل فاقمت الحال السيئة لواقع الشباب داخلها، وفي الحياة العامة أيضاً».

وبين تشبث الكبار، وضعف الشباب وإفساد معظمهم، يفشل الشباب المرة تلو الأخرى في صنع أي تأثيرٍ ملحوظٍ في الحال الفلسطينية المتشظية، على رغم أنهم وقود انتفاضتها، كما نهضتها، ففشلوا في دفع عجلة العملية الديموقراطية لتدور من جديد، كما أُفشلوا مراتٍ عدة في حراكهم من أجل إنهاء حال الانقسام الداخلي، وظلوا مغيبين عن قرار بدء الحرب أو إنهائها، والمفاوضات وكواليسها، المصالحة ومسلسلها... وغير ذلك الكثير.

&

&