& ناصر نافع البرّاق

يحاول معظم المحللين الغربيين، خصوصاً البريطانيين، وبعض الأمريكيين، شيطنة التحركات السعودية، منذ وصول قيادتها الجديدة إلى سدة الحكم، على رغم منطقية تلك التحركات بالنسبة إلى المتابعين للتاريخ السياسي للمملكة، والإقليم برمته.

تلك الشريحة من الكتاب والمحللين، لا تريد أن ترى في الخطوات السعودية في «عاصفة الحزم، رعد الشمال، التحالف الإسلامي، الانخراط في الملف السوري، إيقاف منحة الجيش اللبناني، قطع العلاقات مع إيران، تصنيف حزب الله منظمة إرهابية»، إلا اصطفافا طائفيا، يفضي إلى مزيد من تأجيج الصراع في المنطقة، أو بحثا عن انتزاع المملكة القوية عبر وزير دفاعها الشاب الأمير محمد بن سلمان، هيمنة إقليمية، تعوض بها سياسة «التخلي الأمريكية».

الكاتب الأمريكي سايمون هندرسون بين أولئك الذين نقلوا ما يصفه بالالتباس لدى المهتمين بالشأن السعودي، فأكد أنه «بينما يشير تفسير محتمل للتقارير الإخبارية إلى تعزيز الثقة الذاتية والقدرات العسكرية السعودية، تعكس هذه التصريحات نوعا من الالتباس حول أولويات المملكة. فما هي أهم الأمور بالنسبة إلى السعودية؟ هل هو التمرد الحوثي في اليمن أو تنظيم «الدولة الإسلامية» في سورية أو مجابهة إيران»؟ ثم مضى في مقالة موسعة حول العمليات العسكرية الطموحة للسعودية، محاولاً التشكيك في جدوى أو قدرة الرياض على تحقيق أي منجز في المبادرات التي قادتها.

لكن بالنظر إلى الجانب الآخر من الصورة، نجد أن بعض الغربيين، يفهمون مغزى السعودية الجديدة، فيلقون باللائمة أكثر على بلدانهم، فيرى الكاتب ديفيد شنكر من معهد واشنطن أن «القلق الحقيقي من النهج السعودي الجديد يمثل تحولاً بعيداً عن التحالف التاريخي الوثيق مع واشنطن. ففي أعقاب كارثة الخط الأحمر حول الأسلحة الكيميائية السورية، والابتعاد عن الالتزام بالإطاحة بالأسد عام 2015، والاتفاق النووي مع إيران، وصلت الرياض إلى نتيجة مفادها أن واشنطن لم تعد حليفاً يمكن الوثوق به».

ووفقا لأحدث مبادرات السياسة السعودية، يقول الكاتب «يبدو أن المملكة قد قررت أن تقوم بذلك وحدها، لتحقيق مصالحها دون اعتبار لرغبات الولايات المتحدة. وفي حين يعتقد الكثيرون أن الحملة التي تشنها الرياض في اليمن وسياستها النفطية تزرعان بذور عدم الاستقرار في المملكة، فإنه نظراً لسجل الإدارة الأمريكية في احتواء إيران، في المستقبل المنظور، فمن المرجح استمرار النهج الذي تتبعه السعودية وزيادة أنشطته».

وتبعاً لذلك يمكن القول إن الشرائح التي تحاول درس التحرك السعودي الجديد، بدأت تستوعب، أن دولة في مثل حجم المملكة وعمقها وثقلها الإسلامي والعربي والعالمي، ليس بوسعها أن ترهن مصيرها، بأي حلف مهما كان ضرورياً أو مؤثراً. وهي -أي السعودية- وإن كانت كذلك منذ حين، إلا أن شراسة الأضداد، وانهيار منظومة الأمن القومي العربي في أكثر من بلد، دفعها إلى اتباع سياسة أكثر ديناميكية ونجاعة، مما يعني أن المتغيرات الإستراتيجية في الإقليم والمحيط العربي من شمال أفريقيا إلى الخليج والشرق الأوسط، هي التي أحوجت المملكة، إلى المبادرة بإعاقة تمدد الانهيار إلى باقي دول الإقليم. فلو لم ترسل قواتها إلى البحرين واليمن أو سكتت عن نهج إيران في سورية، لما كان اليوم للكيان العربي أثرا يعول عليه في تلك المناطق المهمة. ولا سيما أن النموذج العراقي شاخص، وهو الذي يطمح رجال طهران إلى استنساخه في كل دول الإقليم.

وما يسميه السعوديون شعبيا «عصر الحزم»، في إشارة إلى نهج قيادتهم الجديدة، مثلما أنه وجد تأييداً محلياً لافتاً، يراه العالم الإسلامي، ضرورياً لصيانة العمق الإستراتيجي لقبلة العالم الإسلامي، التي غدت عملياً مهددة بالأسلحة الحوثية التي طاولت حتى حدود السعودية، ناهيك عن الشرعية في اليمن، ومعظم العالم الإسلامي (السني) يرى أمن السعودية أهم من أمن السودان أو المغرب أو ليبيا، مثلما قال الرئيس السوداني أخيراً عمر البشير في حوار صحافي معه، في «عكاظ السعودية».

شعور الشعوب الإسلامية بأنها مستهدفة في عمقها ليس نهجاً طائفياً، هو شعور له ما يسنده من الحقائق العملية، ففي دول مثل غرب أفريقيا (نيجيريا، ساحل العاج، مالي، السنغال)، وهي دول غالبيتها مسلمة، مالكية المذهب، لم تسمع في كل تاريخها بـ «التشيع»، بينما تمكن رجال طهران من استمالة أعداد منها نحو المذهب الجعفري، وجيشتها ضد نسيجها الاجتماعي والعقائدي، والسياسي أحياناً، حتى نشأت مواجهات مسلحة على إثر ذلك، ومثل ذلك حدث في المغرب وغرداية في الجزائر، حتى تدخلت السلطات، فما أشعر تلك الشعوب بالخطر الإيراني، هو أنه من حيث الميدان، يجدون أنه وراء كل القلاقل والجروح النازفة في المنطقة، فلو لم تكن طهران، لما صادر حزب الله القرار اللبناني، ولا صمد بشار الأسد، ولا وجد تنظيم داعش الإرهابي حاضنة في الموصل العراقية التي عانت المرارات على أيدي شركائها الافتراضيين في بغداد. ولولا الدعم الإيراني، لما طمعت ميليشيا الحوثي في السيطرة على اليمن، وشطب قرارات مجلس الأمن والمجتمع الدولي.

وإذ يرى الباحثون الإستراتيجيون أنه منذ غزو صدام الكويت 1991 لم يزل الشرخ في الأمن العربي في ازدياد، كما يرجح الباحث عبدالفتاح الرشدان في كتابه «الأمن الخليجي»، الصادر عن مركز الجزيرة للدراسات، فإن «الأمن الإقليمي للخليج، وخاصة دول مجلس التعاون الخليجي، لا يمكن النظر إليه بمعزل عن الأمن القومي العربي؛ لأن الخليج ونظامه الإقليمي جزء من النظام الإقليمي العربي في إطاره الأوسع ويرتبط ويؤثر ويتأثر به سلبًا أو إيجابًا، ومن ثم صعوبة، إِنْ لم يكن استحالة، فكِّ الارتباط بينهما»، مما يعني أن الإضرار الإيراني بمصالح الدول العربية، هو إضرار مباشر بالخليج.

وبالتالي يقول رشدان في موقع آخر، فإن «أمن دول مجلس التعاون الخليجي شهد مزيدًا من حالة عدم الاستقرار والتصدع بسبب إصرار إيران الجارة التاريخية على امتلاك السلاح النووي، وخاصة بعد تزايد نفوذها في العراق وسورية ولبنان واليمن، وتنامي رغبتها في الهيمنة والاضطلاع بدور قيادي في المنطقة».

هذا ما جعل السعوديين يدركون أن أمريكا المنخرطة في التصالح مع طهران، لم تعد مهتمة، بالنظر إلى أفعالها وسلوكها نحو «الدول العربية»، فكان لابد من تحرك سعودي، أشبه بإعلان حالة طوارئ، على المستويات العسكرية والسياسية والقانونية، ما أشعر طهران والغرب، بذهول، لكنهم لا ينتظرون هذا الموقف من الرياض، على رغم أنهم يشهدون بأنه جاء رد فعل على تدخل مدان دولياً من طهران في أكثر من موقع.

لكن الإيجابي في كثرة الجبهات والمخاطر الجديدة التي واجهتها السعودية، أنه أبرز نقاط قوتها، وأشعر العالم العربي والإسلامي بحاجته إلى التضامن في سبيل إنقاذ نفسه، وأن المملكة بمقوماتها، بوسعها فعل الكثير، على المستويات كافة، وهكذا رأينا في مناورات رعد الشمال كل الطيف العربي والإسلامي، من المملكة المغربية في أقصى المغرب العربي إلى ماليزيا في أقصى الشرق، مما أوصل رسائل عدة، يقال إن أسرع مدلولاتها، الانسحاب الروسي المفاجئ من سورية، خصوصاً بعد إعلان السعودية أن بقاء الواقع السوري على ما هو عليه «خط أحمر».