تركي التركي &

ما إن فرغ المخربون الذين اعتدوا على مكاتب صحيفة الشرق الأوسط في بيروت من هجومهم المصور بالفيديو صوتا وصورة، حتى اجتمعوا ثانية على مائدة عشاء عامرة ليلتقطوا صورا أخرى بثوها عبر حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، مؤكدين هوياتهم، وابتسامات الفخر وعلامات النصر تعلو محياهم، في تباه وتحد واضحين لأي ملاحقة أمنية محتملة.

&هذه الصور تذكر من جهة بـ "الدواعش" الذين يحرصون على توثيق جرائمهم بكل السبل الممكنة حتى لو كلفهم ذلك تأخير العملية أو تقديمها، ومن جهة أخرى تشير هذه الحوادث في مجملها وتفاوت نتائجها إلى بعد مشترك تختص به جرائم اليوم. حيث الصورة وتوثيق الفعل الفوضوي أو الإجرامي إعلاميا بات شرطا أساسيا. لم يكن واردا في جرائم الزمن الماضي التي على العكس تماما كانت تهدف إلى أن تكون جريمة "كاملة" يصعب الوصول إلى من خطط لها، فضلا عن التمكن ممن نفذها أو قام بها.

&وهذا ما يضع المعنيين بتتبع هذه الجرائم أمنيا وفكريا أمام حقائق جديدة ومختلفة. تؤكد أن هذا الإرهاب المتفشي اليوم هو "إرهاب إعلامي" في المقام الأول. يبحث عن الظهور والتباهي بهويته وجرائمه وأفكاره المتطرفة للعلن، لذلك نجد كثيرا من أربابه ووقوده من الشباب وغيرهم قد لا يقدم على فعله قبل أن يتأكد من وجود كافة الأدوات التي تضمن وصول رسالته الإرهابية صوتا وصورة.

&و"التحالف الإسلامي" الذي أنهى جلسة أركانه الأولى في الرياض الشهر الفائت بمجموع 40 دولة لحد الآن، ركز في جلساته المتتابعة وفي إعلانه الأخير على هذا البعد الإعلامي بشكل واضح وغير مسبوق. مشددا على مواجهة الإرهاب إعلاميا بالقدر ذاته فكريا وعسكريا. وعلى التنسيق المشترك بين جميع الدول معلوماتيا واستخباراتيا ما يضمن رصد الفعل الإرهابي وإرهاصاته قبل وقوعه.

&إلى ذلك، فالعالم والمنطقة أمام أشخاص مستلبين، لا يخشون عاقبة فعلهم على نفسهم أو على الآخرين. كما أنهم لا يهتمون لأي سلطة باستثناء توجيه ورضا من يزينون لهم هذه الأفعال من قادة تنظيمات أو أحزاب ودول على شاكلة إيران و"الدواعش" و"القاعدة" وأتباعهم، إما بشكل مباشر أو غير مباشر وفقا لما هو معروف عن تعقيد هرمية هذه العلاقات الإرهابية واختراقاتها المتعددة على مستوى دول وعصابات.&

وبالعودة إلى حادثة "الشرق الأوسط" الأخيرة. فإن إرهابا من هذا النوع "الإعلامي" سينظر بالضرورة إلى الإعلام المؤسسي كمنافس وعدو في الوقت ذاته - خصوصا - إذا ما استمر هذا الإعلام في كشف ممارساته وممارسة قادته، ما يحدث بدوره صدمات متتالية يتبعها إنكار وعنف مادي ورمزي متوقع من قبل الأتباع.

&تحريض الصورة وغواية مشاركتها الآخرين على مواقع التواصل الاجتماعي أصبح من النظريات والحقائق الدارجة والمعترف بها علميا ونفسيا على مستوى التباهي وتعزيز الثقة بالنفس في أبسط الأمور المتعلقة بالمأكل والمسكن والملبس. والأمر ذاته لم يعد مستبعدا - وفقا لمختصين - فيما يتعلق بإظهار القدرة على التوحش والتخريب والعنف، تعزيزا لأفكار أيديولجية معينة. وتغطية أو مداراة لنفسيات هشة لا تقوى على المواجهة الفكرية والاجتماعية عند تبيان مواقفها، فتستعين بهذه البدائل الافتراضية في التفاف نفسي وفكري غير محمود العواقب، لم يكن له أن يوجد لولا تعدد هذه البدائل الافتراضية، ما يفسر تزامن انتشار العنف وتتابع أحداثه، مع توسع تقنيات التواصل الاجتماعي وكثرتها.

&وبعد عقود من "ابتسم كي تكون الصورة أجمل" نعيش اليوم زمنا تعنيه بشاعة الصورة وعنفها أكثر من جمالها لتصبح العبارة "خرب واقتل كي تكون الصورة أبشع". أما المسافة بين صور الجمال والبشاعة. فيمكن قياسها بعمر ظهور مواقع التواصل الاجتماعي. وانطلاق التنافس بين كثير من التنظيمات وأتباعها المجتمعين والمنفردين على ادعاء امتلاك العنف الأكبر والوحشية الأبرز. ومن هنا مرة أخرى تضافرت رسالة الإعلام والإرهاب لدى هذه التنظيمات. رسالة مفادها "سنعلمكم بإرهابنا حيث كُنتُم وسنرهبكم بإعلامنا أيا كُنتُم".

&وبعكس ما توقعه البعض وراهن عليه الكثير أن هذا النوع من إبراز التوحش وتعميمه سيكون المسمار الأخير في نعش هذه التنظيمات. تمكنت هذه التنظيمات من الترويج لذاتها واستقطاب عدد أكبر، عربيا وعالميا، من خلال هذه الوحشية الصادمة شكلا ومضمونًا.&

يبقى أن الارهابيين بهذه القناعات الملتوية والنفسيات المهشمة يودون نقل حربهم الذاتية إلى ساحات المدن والعقول ليجعلوا الناس في نوع من الحصار وبالتالي إجبارهم على منطقهم المعكوس والخاص بالعنف والكراهية. وهو ما تحقق في مناطق الصراع والنزاع الخالية من أي سيادة لتغدو بؤرا تستقطب وتفرخ مزيدا من الإرهابيين. ولكن هو أيضا ما لا يجب أن يتحقق بتعاون وتنسيق جهود المعنيين حول العالم من الدول ذات الهيبة والسيادة.