عبدالله بشارة

&البلد الذي يخسر مطبوعة فكرية تضخ مواقف، ومرفقة برأي واضح ومثابرة في البحث عن الحقيقة، عليه أن يتأمل في المسببات التي جعلت الطليعة بعد ستة عقود من الصلابة تضعف فجأة، أمام تلاشي المروءة السياسية، التي عاشت معها الصحيفة منذ ولادتها، كما شرحها المتابع لحياتها السيد عبدالله محمد النيباري، الذي كتب مقالا في صحيفة «الجريدة» يوم الأربعاء الماضي، يسطر فيه مرارة المتاعب التي تعيشها الطليعة.

والمؤسف أن تتعرض الصحيفة إلى نهاية مؤذية، لأن قواعد القيم التي عاشت عليها، والتي آمن بها المؤسسون تتعرض للتحدي، وهي قيم عاش عليها المجتمع عبر شبكة من العلاقات والتداخل، عمودها عمق الثقة واستعصائها على العبث، وكأن مجتمع الكويت سابقاً، وربما حالياً، يتحرك مطمئناً، اعتماداً على سطوة الولاء للعهد وشرف الكلمة.

كانت الطليعة كونسورتيم-Consortium سياسياً وفكرياً يتشكل من أفراد بنفس المشارب، تربطهم الثقة وعلو الخلق، أعطوا الرأي بوضوح، والتزموا بعمق الإيمان، وتناغموا مع السياسة مدركين لمتاعبها معنويا وماليا، وتحملوا ألم الخصومة، راضين بما يقدمونه للرأي العام، مبتعدين عن ثقل التوثيق، لم يأتِ على البال ضرورات تسجيل المرجعية.

كنت من قراء الطليعة متابعاً لما تقدمه في مسارين، الأول: غرس الوعي الوطني بحق السيادة في قضايا النفط، مع مشقة الحصول على معلومات عن مسلك الشركات وخسائر الوطن، بسبب حداثة الدولة في التسويق والمفاوضات مع الشريك الأجنبي، وتذكرت وأنا عضو في مفاوضات الأمم المتحدة حول النظام الاقتصادي العالمي الجديد، تلك التقارير التي تقدمها الطليعة حول النفط، وجوهرها سيادة الدول على مواردها الطبيعية التي أصبحت مبدأ أقرته الأمم المتحدة في السبعينات.

والعنصر الآخر، الذي كنت متابعاً له، طرح الطليعة لمفهوم الحرية ونشر التنمية السياسية، التي ليست مدرسة وصحة وعناية اجتماعية، وإنما حق المواطن في المشاركة السياسية وفي القرار السيادي، وصار صوت الطليعة يخرج بأعلى تقاسيمه، كل أسبوع، في اصرار على غرس بذرة الايمان بالديموقراطية ليس كتنظيم، وإنما كحق يرافق ولادة الانسان.

كانت كونسورتيم ليس في موضوعاتها فقط، وإنما في تشكيل مؤسسيها، بعضهم استوطن التجارة، وبعضهم استوطنت السياسة في ضلوعه، والبعض الآخر ارتدى ثوب النسَّاك المتعبدين لطراز معين من الفكر السياسي.

كنت أتحدث مع المرحوم سامي المنيس كثيرا في الستينات عن الحدة الجارحة، التي تتسلل مداخلاته أو تعليقاته الصحافية، وكان يتعالى على النقد بعذوبة قهقهة النقاوة والصفاء.

لم تجد الحكومات في طرح الطليعة النفطي أو في السياسة الداخلية ما يشكل عبئاً عليها، أو يتعارض مع أهدافها.

وتبرز اشكالات بين الحين والآخر، عندما تتجه اللسعات نحو دول شقيقة، ومن دون شك للطليعة أنصار، ولها عشاق ولها نقاد، وكنت أحد الذين يدعمون معالجتها للداخل، ولم أسعد مع جسورها في الخارج، فلم تكن من أولويات المجتمع الكويتي الذي لديه شواغله.

العروبة في الكويت واقع لا جدال فيه، ولم يكن مجتمعنا متعطشا لشروحات عن عروبية الكويت السياسية وحاجة التثقيف عنها.

ولقد تلاشت تلك الظاهرة غير المألوفة مع الغزو، وانتهى الاهتمام بالشؤون العربية، التي يقول عنها أحمد النفيسي، أبرز كواكبها، في مقاله الذي ينعى فيه مروءة الحاضر، استنزفت جهدا كبيرا من طاقة رجال الطليعة، كما أثار اشمئزازه موقف التنظيمات العربية من احتلال الكويت.

تبقى ضرورات الطليعة سواء جاءت بالثوب المألوف، أو بثوب آخر، فالجفاف السياسي الداخلي وضمور الفكر، وندرة الابداع، كلها تتآلف لعودة محتواها، لضروراتها لواقع الوطن.

&

&