أحمد الجمال

&هذه المرة تنصرف المصطلحات إلى معانيها ومضامينها مباشرة دون تحميلها فوق طاقتها وبغير مهارات بلاغية ومبالغات

أيديولوجية وألاعيب سياسية، والمصطلحات التى أعنيها وأقصدها تتصل بما يرتبط بزيارة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود لمصر، إذ أننا فى مصر وفى المملكة وفى الوطن العربى والمنطقة ككل نعيش ما قد تجاوز «المنعطف الخطير» و«اللحظات الحرجة» و«المصالح المشتركة» إلى أنه «منزلق فعلي» و«لحظات حياة أو موت» تهدد الوجود ذاته، سواء كدول لها إقليمها وشعبها وسلطتها، حيث الإقليم أى الأرض مستهدفة بالتفتت والشعب مهدد بالإرهاب وإزهاق الأرواح وإسالة الدماء والسلطة مهددة بحتمية اختيارات بالغة الصعوبة لم تكن فى حسبان أحد.. وباختصار فإن الجميع مهددون فى وجودهم الإنسانى الشامل، والأعداء متربصون وفاعلون ولا يخفون خططهم ولا مواقفهم وآخرها ما كتبه رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، ورد عليه تركى بن فيصل بن عبد العزيز.

&ودون الاستغراق فى استرجاع الماضى بتفاصيله فإن دروسه الواضحة أى دروس التاريخ وربما قوانينه التى تحكم مسار البلدين ومعهما أمة العرب - وهو مصطلح قد لا يعجب البعض الآن - تؤكد أن هناك مراكز رئيسة ذات ثقل راجح فى المشرق العربى الذى يبدأ من مصر غربا وتتصل مساحته لتصل إلى بلاد الشام والعراق وشبه الجزيرة العربية.

&يؤدى الشقاق أو التنافر وأى تصادم بين رؤاها وسياساتها إلى نشوء وتعاظم ثم استفحال المخاطر التى تصل إلى تهديد وجود الدول ذاته، وكم هو مفيد أن أجد فرصة لنشر محاضر الاجتماع بين وفدى مصر برئاسة الرئيس جمال عبد الناصر والمملكة برئاسة الملك فيصل بن عبد العزيز، وكانت القاهرة مكان الاجتماع وفيه كانت مصارحة شديدة حول الآثار المدمرة للتصادم بين البلدين وكيف لعب حزب البعث تحديدا دورا خطيرا فى تأجيج هذا الصدام، وتضمن الاجتماع رؤية إستراتيجية مستقبلية عن الرئيس عبد الناصر يتحدث فيها عن دور مصر ومنهجها بعد هزيمة 1967.

&وتأتى زيارة الملك سلمان لتفتح الأذهان فى مصر وفى المملكة، خاصة أذهان المهتمين بالأمن الوطنى للبلدين والأمن القومى لكليهما معا ثم للأمة العربية إلى حتمية تأصيل الأهمية القصوى للبحر الأحمر من شماله بخليجى العقبة والسويس إلى جنوبه عند باب المندب واتصاله ببحر العرب وصولا إلى هرمز والخليج باعتباره العمود الفقرى لهذا الأمن باختلاف مستوياته الوطنية والعربية والإقليمية، لأن المرء يعجب كثيرا من إهمال هذه القضية قياسا على التركيز الشديد بالنسبة للبحر المتوسط.

&وعند أى دارس فى مصر مثلا للتاريخ وللجغرافيا ثم السياسة، فإن البحر الأحمر من شماله إلى جنوبه كان الوجهة الرئيسة لكل ملوك مصر الأقوياء فى حقب تاريخها القديم، ولذلك فإنهم عندما أرادوا تحديد أمن مصر الاستراتيجى آنذاك قالوا إنه يمتد شمالا من منابع المياه المعكوسة أى دجلة والفرات ومعلوم أن القدامى كانوا يعتبرون كل نهر لا يجرى من الجنوب إلى الشمال مثل النيل فإن مجراه معكوس!!، إلى قرن الأرض جنوبا أى القرن الإفريقي، لأنهم وعبر قرون أدركوا أن الخطر دائما يأتى من الشرق وأن بعض الموارد الاقتصادية اللازمة لمصر تأتى أيضا من الجنوب الشرقي، ناهيك عن أن هذا المحور الاستراتيجى الخطير كان الممر أو المعبر للتفاعل الحضارى والثقافى بين مصر وبين الجزيرة العربية وصولا للشام والعراق، بل إن بعض باحثى الأديان القديمة يذهبون إلى أن تقديس الأنثى بوجه عام انتقل من مصر إلى مكة ومحيطها، فصارت «إيزيس» هى «العزى» وكما كانت لدى مصر نوت وإيزيس ونفتيس كان لدى أهل الجزيرة العربية اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى!! وفى هذا السياق التاريخى وخاصة مع ظهور المسيحية فإن دور مصر تواصل مع مثيله فى الجزيرة العربية وخاصة شمالها وصولا إلى بادية الشام، وحدث تأثر كبير بما كان فى مصر من جدل لاهوتى عميق وتمذهب عرب الجزيرة بأحد المذاهب المسيحية المصرية بعد مؤتمر نيقيا المسكونى فى عام 325 ميلادية.. وفى هذا تفاصيل كثيرة وثرية للغاية، ثم إنه عندما ظهر الإسلام وانتشرت دعوته فى شبه الجزيرة العربية وبعدها فى العراق والشام ثم مصر والشمال الإفريقي، كان لمصر دور لا ينكر على صعد مختلفة فقهية وفلسفية وصوفية وأيضا حضارية وثقافية وعسكرية، ولن تكفى مساحة المقال للاطناب فى هذا الجانب.

&نحن إذن أمام معطيات جغرافية وتاريخية وحضارية وثقافية وأيضا سياسية قديمة ومعاصرة تقودنا إلى نتيجة لا ينبغى تجاهلها ولا المماحكة فيها، وهى أن أمن مصر وأمن المملكة والأمن العربى بوجه عام يتقوض إذا دقت الأسافين وتصاعد الافتراق بين العاصمتين أى بين الدولتين!&

القضية إذن ليست ظرفا طارئا وخطرا محدقا من جماعات الإرهاب الإخوانى والداعشى وكل من يعتنقون فهما خاطئا للدين ودوره فى حياة المجتمع، وإنما القضية هى قضية ثوابت فرضها ومازال يفرضها المكان والزمان والوجود الإنسانى بحد ذاته.&

إننى أذهب مع الذين يذهبون بفهم ووعى إلى أن بقاء مصر وبقاء المملكة محافظتين على وحدة ترابهما الوطنى وعلى تماسك مجتمعيهما الداخلى وعلى الاستمرار فى التصدى للإرهاب وعلى الوقفات السياسية الحاسمة فى وجه من أرادوا إسقاط مصر أولا، وكان من تجليات ذلك الموقف السياسى والدبلوماسى السعودى للراحل الأمير سعود الفيصل فى باريس منذرا وبشراسة أى استهداف لحصار وضرب مصر بعد 30 يونيو، ثم التصدى لأطروحات باراك أوباما، هو بقاء استدعى مزيدا من التهديدات والمخاطر لأن ما تم إفشاله لم يكن ضربا من ضروب نزوات دول عظمى، بل كان مخططا مرسوما ومبرمجا يتجه لتفتيت وتفكيك المنطقة وإعادة رسمها من جديد وفقا لما قرأناه وتابعناه عن سايكس بيكو القرن الحادى والعشرين، ولذلك فإن إدراك قيادتى البلدين لحجم الخطر واتساع وعمق التهديدات يعد النواة الصلبة لتطوير آليات الحفاظ على وجودنا كشعوب ودول. ويبقى لدى كل الواعين بما يجرى أمل لا بديل عن السعى لتحقيقه، وهو مد جسور التواصل بين النخب الفكرية والثقافية والاقتصادية فى البلدين وفى بقية دول مجلس التعاون الخليجي، لنبنى ما أسميه حوائط الصد الحضارى والثقافى والاقتصادى الداعمة لحوائط الصد العسكرى والأمنى التى ثبت أنها لا تكفى وحدها لمواجهة الخطر، ولأن الاختراقات الخطيرة للنواحى الأمنية والدفاعية يمكن مواجهتها بنشاط الأجهزة ويقظتها، أما الاختراقات الأخطر فهى التى تستهدف جوانب القوى الناعمة فى المجتمع لضرب تماسكه وتدمير هويته وبث الوهن والضياع فى إدارته.