&عصام نعمان

لا أحب اللجوء إلى التعميم ما لم تكن الواقعة المراد التأكيد عليها قد جرى التثبّت من صدقيتها باستطلاعات رأي واستقصاءات وإحصاءات دقيقية. ومع ذلك أجازف بالقول، استناداً إلى شواهد من لبنان وأوروبا وأمريكا، إن الناس عموماً فقدوا الثقة بالسياسة والسياسيين. نعم، ما عادت السياسة وسيلة ناجعة للتدبير والتغيير، ولا السياسيون أهلاً للثقة بنياتهم وقدراتهم على تحقيق ذلك.

لعل لبنان، بتركيبته التعددية وتنوعه الثقافي ومجموعات النازحين المتدفقين عليه من كل حدب وصوب ودين، نموذج ومختبر لاستخلاص عيّنة وشاهد على ما أدعيه. فقد قامت في مدنه ومجتمعاته، عقب «ثورات» الربيع العربي حراكات شعبية عدة، كان آخرها وأقواها الحراك المتعلق بفضيحة النفايات والمسؤولين عنها والمشاركين فيها. ومع أن القضية تتعلق بصحة الناس جميعاً وبصحة المجتمع بصرف النظر عن المشارب السياسية والمذاهب الدينية، فقد أخفق الحراك وقادته في تحقيق أهدافه.

صحيح أن الشبكة الحاكمة لم تتأخر في قمع الحراك وقادته بأساليب شتى، لكن فشله لم يكن بسبب القمع الحكومي بالدرجة الأولى، بل نتيجة قلّة صبر «الحراكيين» ونَفَسهم القصير الناجم بدوره عن شعورهم، كما أغلبية الناس، بعدم جدوى السياسة وفقْد الثقة بالسياسيين، نياتٍ وقدرات.

وليد جنبلاط المعروف بجرأته وصراحته المعهودتين، أعطى أخيراً شهادةً في الموضوع على طريقة «شهد شاهد من أهله»، فجاءت شهادته قاطعة ساطعة. قال بلا مواربة لصحيفة «السفير»: «أنا أدرك أن مصداقيتنا كسياسيين ضُربت، خصوصاً بعد أزمة النفايات، وأعرف أن بعض الناس لم يعد يصدقني عندما أتكلم حول الملفات التي تفوح منها الشبهات. لكن لا خيار أمامي سوى أن استمر في المحاولة لعلني أساهم قدر الإمكان في الحد من خسائر الفساد المستشري مع علمي بأزمة الثقة المستفحلة بين الناس والطبقة السياسية التي أنا جزء منها».

هل يعقل أن يبقى البلد أكثر من عشر سنوات بلا موازنة (ميزانية سنوية)، ونحو سنتين بلا رئيس جمهورية، ونحو ثلاث سنوات من دون انتخابات برلمانية، وأن يمتنع مجلس النواب الممدد لنفسه عن الاجتماع وبالتالي عن التشريع، وأن تبقى النفايات في الشوارع وبين المنازل أكثر من ثمانية أشهر... ومع ذلك لا يثور الناس ولا يلجأون إلى أي تدبير «سياسي» لإنهاء الوضع الفاسد أو، في الأقل، لمعالجته؟

في فرنسا، ولعلها مصغّر نموذجي لأوروبا، قال رئيس حكومتها مانويل فانس في منتدى حول «الإسلاموية وتقدمها الشعبوي في أوروبا»: «يفترض ألا يمثل السلفيون إلا نسبة واحد في المئة من المسلمين (عددهم الإجمالي 5 ملايين في فرنسا اليوم، لكنهم يكادون يكسبون المعركة الإيديولوجية والثقافية والإعلامية، إذ إن رسالتهم هي الوحيدة التي نسمعها على مواقع التواصل الاجتماعي، وتعكس معرفتهم كيفية إيصالها إلى الشبان اليافعين».

منسق الاتحاد الأوروبي لمكافحة الإرهاب جيل دي كيرشوف ماهر فانس رأيه بقوله إن «الإيديولوجية مصدر مهم للتطرف الجهادي في أوروبا، ولا بد أن نعمل على قيام إسلام أوروبي».

حسناً، فهمنا أن التطرف الجهادي مصدره إيديولوجي، أي ديني، لكن لماذا رسالة السلفيين و«الجهاديين» هي «الوحيدة التي نسمعها على مواقع التواصل الاجتماعي»، كما يقول فانس؟ بل لماذا هذا الصعود المتواصل لقوى اليمين المتطرف في فرنسا بشخص زعيمة الجبهة الوطنية مارلين لوبن وأمثالها؟

الجواب: إنه فقدان الثقة بالسياسة والسياسيين عموماً ولاسيما، في حالة فرنسا، بالاشتراكيين والليبراليين وأمثالهم.

في الولايات المتحدة، يبدو أن المشكلة هي نفسها: فقدان الثقة بالسياسة والسياسيين، مع فارق لافت هو أن فقدان الثقة ينصب، بالدرجة الأولى على قيادة Establishment كل من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وبالتالي على المرشحين الذين «يتمتعون» بتأييد القيادات.

أكثر من ذلك: ارتكب مرشحو تلك القيادات، ولاسيما الجمهورية منها، أخطاء فادحة بتأييدها مرشحين جلبوا على أمريكا الكوارث، ومنهم على سبيل المثال جورج بوش الابن،«بطل» الحرب الكارثية على العراق. ولأن قيادتي الحزبين ما زالتا تناديان بأفكار ومشاريع من الماضي وتؤيدان مرشحين يمثلون آراءها، فإن ذلك أدى إلى نشوء ردات فعل متطرفة عند الناخبين عموماً. لذلك فإن اتساع قاعدة مَن يؤيدون المرشح الجمهوري اليميني المتطرف دونالد ترامب مرده إلى نفور الناخبين الجمهوريين من قيادتهم وقيامهم بالتصويت له كتعبير صارخ عن رفضهم لها بالتصويت إلى خصمها. كذلك الأمر في الحزب الديمقراطي، إذ إن اتساع التأييد للسيناتور بيرني ساندرز مرده إلى النفور من قيادة الحزب التي تؤيد مرشحتها التقليدية هيلاري كلينتون.

يتضح من هذه الأمثلة المستقاة من لبنان وفرنسا والولايات المتحدة اتساع قاعدة نفور الناس من السياسة والسياسيين. ثمة أسباب متعددة لهذه الظاهرة، لعل أبرزها ثلاثة:

الأول، استشراء سلوكية النفاق والكذب لدى السياسيين وعدم وفائهم بوعودهم وبرامجهم ما يؤكد، تالياً، عدم جدواهم.

الثاني، انكشاف السياسيين أمام الناس وقدرة هؤلاء عبر أجهزة التواصل الاجتماعي على إدراك فشلهم ودجلهم وقيامهم، تالياً، بتعميم انفضاحهم على نحوٍ واسع ومؤذٍ الأمر الذي أدى إلى تدني ثقة الناس بالسياسة والسياسيين.

الثالث، مع انكشاف السياسيين وتدني جدوى السياسة، برز الدين والإيديولوجيا كبديلين جاهزين لسد الفجوة الناشئة عن فشل السياسيين.

&

إذ تتضح أسباب العودة إلى الدين وإلى التفكير اليميني المتطرف، يبقى سؤال: كيف يمكن مواجهة هذا التحدي المتعاظم التأثير؟&