رائد السمهوري

طرح أي مشروع لا يمرّ من خلال الإسلام لن يجد ترحيبًا عند عموم الناس، وإذا حصل ورفض الناس فصيلاً "إسلاميًا"؛ لم يرفضوه لأنه إسلامي، بل لأنهم لا يرون فيه تحقيقًا لمصالحهم.

أعتقد بقناعة تامّة أن كل إصلاح في هذه الأمّة لا يمرّ من خلال الإسلام فهو لغو وباطل وإضاعة للوقت، بل ربما كانت مآلاته إفسادًا لا إصلاحًا، أقول: "كل إصلاح لا يمرّ من خلال الإسلام"، ولا يشترط أن يمرّ من خلال "الحركات الإسلامية"؛ فالحركات الإسلامية ليست هي الممثل الحقيقي والأوحد للإسلام وفهمه الفهم الصحيح، ولست بهذا الكلام –في ظنّي على الأقل– متحاملاً أو معاديًا؛ فما الحركات الإسلامية كما الأحزاب العلمانية وغيرها في عالمنا العربي إلا نتاج سياق واحد، سياق التراجع الحضاري والفكري على وجه العموم.

فالحركات الإسلامية –عمومًا- "ماضويّة" في تفكيرها؛ حتى عندما ترفع شعارات حديثة كالديموقراطية، لا سيّما حين لا ينظر إليها إلا باعتبارها صناديق اقتراع، لا طرائق تقوم على فلسفة وكليّات. والذين يسرّك منهم بعض الرأي –من الإسلاميين- ما هم إلا أفراد في بحر متلاطم، ونتاجهم ما هو إلا كتابات صحفيّة لا تقوم على تأصيل عميق فكري فلسفي أو شرعيّ. وما العلمانيون بأفضل حالاً من الإسلاميين في كثير من الأمور، وهم الذين سيطروا على الحكم معظم عصر ما بعد الاستقلال، هذا، ولا أدّعي أن أحد الفريقين شر محض، ولا خير محض.

أما أن كل إصلاح في هذه الأمة يجب أن ينطلق من الإسلام فبتجديد الفهم للدين، فمن الإسلام رعاية المصالح وتكميلها، والقضاء على المفاسد وتقليلها، ومن الإسلام النظر في خير الخيرين وشر الشرّين، ومن الإسلام النظر في الحال والمآل، ومعاملة المتوقَّع معاملة الواقع، ومن الإسلام إزالة الضرر، وملاحظة واجب الوقت، والأولويات، فليس الإسلام قواعد أسمنتية مصبوبة، بل هو روح تسري في هذه الأمّة، قوامها وجوهرها الأخلاق، والنظر في مصالح الناس على وفق الممكن وعلى أفضل الأوجه، والتفاعل مع الواقع تفاعلاً إيجابيًا على قدر الوسع والطاقة والاستطاعة. وأظن أن تجديد فهم الدين هو واجب من واجبات الوقت هذه الأيّام؛ وبدون هذا التجديد، وبدون النظر في الواقع ومآلاته لا يمكننا الكلام عن كون الإسلام صالحًا لكل زمان ومكان بدون أن نبذل جهدًا معرفيًا حقيقيًا نجدد فيه فهمنا للإسلام ناظرين إلى واقعنا ومآلاته.

إن مجتمعاتنا المسلمة مجتمعات متدينة ومحافظة، يجري الإسلام منها مجرى الدم في العروق؛ وطرح أي مشروع لا يمرّ من خلال الإسلام لن يجد ترحيبًا عند عموم الناس، وإذا حصل ورفض الناس فصيلاً "إسلاميًا"؛ لم يرفضوه لأنه إسلامي، ولم يرفضوه لأنهم معادون للإسلام كارهون له، حاشا وكلا، بل يرفضونه لأنهم لا يرون فيه تحقيقًا لمصالحهم، ولأن خطابه ربما يكون غريبًا عن الإسلام الذي يعرفونه ويعيشون به ببساطتهم وفطرتهم وفهومهم، أو لأسباب أخرى خارجة عن كون الشعوب لا تريد الإسلام!

وحسبي دليلًا على ألا سبيل إلى الإصلاح إلا من خلال الإسلام أن بعض العلمانيين ليقوموا بإقناع الناس بأفكارهم يقدّمون أطروحات ساذجة خالية من التأصيل العلمي الحقيقي، فيأخذون عبارات أو رواسم (كليشيهات) فيقدّمونها جسرًا للعبور إلى عقول الناس وقلوبهم، فيوظفونها في غير ما جاءت من أجله.

فمن تلك الرواسم (الكليشيهات) التي يرددها بعض العلمانيين حديث النبي صلى الله عليه وسلم "أنتم أعلم بأمور دنياكم"، وهو حديث ورد في قصة تأبير النخل، لم يقله النبي صلى الله عليه وسلم لتنحية القرآن عن الحياة، ولا لتنحية الشريعة عن الحياة، ولا لتعطيل مبادئ الإسلام وأصوله، كل ما في الأمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقوم يلقحون النخل فقال: "لو لم تفعلوا لصلح"، فخرج شيصا "تمرا رديئا"، فمر بهم فقال: ما لنخلكم؟ قالوا: قلت كذا وكذا.. قال: أنتم أعلم بأمور دنياكم.

وقد ذكر الإمام مسلم هذا الحديث تحت باب "وجوب امتثال ما قاله شرعا دون ما ذكره صلى الله عليه وسلم من معايش الدنيا على سبيل الرأي".

فأين هذا مما يريده أولئك؟

من الكليشيهات التي يرددها بعض العلمانيين أيضًا ما قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه ذات مرة حين قال:"القرآن حمّال أوجه". وهذا حق لا شك، لكن ليس في كل شيء! بل القرآن حمّال أوجه في المتشابه الذي تنازع فيه أهل القبلة، من أحكام مرتكب الكبيرة، والقضاء والقدر..إلخ. ولا أظن أن أهل القبلة يريدون ألا يعيشوا بالإسلام وفي الإسلام ومع الإسلام. فهل قوله تعالى: {ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً} هو من المتشابه؟ وهل قوله تعالى: {أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} من المتشابه؟ وهل قوله تعالى: {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} من المتشابه؟ وهل قوله تعالى: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور} من المتشابه؟ وهل قوله تعالى: {قل هو الله أحد} من المتشابه؟ وهل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} من المتشابه؟ وهل مراد علي بن أبي طالب رضي الله عنه هو ما يريده أولئك العلمانيون؟

وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك". هل قالها النبي صلى الله عليه وسلم مريدًا ما يريده أولئك الرهط؟ هل يستفتى القلب فيما قطعت فيه الشريعة وأجمع عليه أهل القبلة جيلاً فجيلا؟

إن تلك العبارات حق في سياقها، لكنها تضحى باطلاً في غيره. وتوظيفها على هذه الطريقة توظيف ساذج –إن أحسنّا الظنّ– ولئيم وبغيض –إن أسأناه-.

&