صالح القلاب&&

باعتراف بشار الأسد نفسه، أنَّ من انتشله من السقوط والهزيمة الحتمية المنكرة هو الغزو العسكري الروسي لسوريا الذي - خلافًا للإيحاءات الروسية وترويج بعض «المؤلفة قلوبهم» عربًا وغير عرب - لا يزال على ما هو عليه، ولعل ما لا يمكن إنكاره أن القاصفات الاستراتيجية لا تزال هي العامل الحاسم في المواجهات المحتدمة في المناطق الشمالية والجنوبية، وأيضًا في منطقتي اللاذقية وإدلب والمناطق الساخنة الأخرى، إنْ في سهل الغاب، وإنْ في المناطق المحيطة بالعاصمة دمشق نفسها.

ربما هناك من يعوِّل على بعض التغيير الملموس في اللهجة الروسية تجاه تطورات هذا الصراع الذي ازداد احتدامًا في سوريا، لكن واقع الحال يؤكد أنَّ مواقف أصحاب القرار في روسيا، فلاديمير بوتين ووزير خارجيته سيرغي لافروف، لا تزال على ما هي عليه، إنْ لجهة محاولات تفتيت المعارضة السورية و«تفخيخها» من الداخل بإضافة مجموعات طارئة ومصطفة إليها، وإنْ لجهة الحديث المعسول عن الحلول السياسية والسلمية المنشودة مع الاستمرار بالتصعيد والمواجهة العسكرية.

وهكذا، فقد واصل الروس التصعيد وتشجيع نظام بشار الأسد على مواصلة العمل العسكري كلما لاح بصيص أمل بإمكانية وضع هذه الأزمة على بداية طريق الحل السياسي وفقًا لـ«جنيف1» و«قرارات مجلس الأمن الدولي»، وكلما أفلح المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا في استدراج طرفي الصراع إلى جولة مفاوضات «عدمية»، وهي لن تحقق أي إنجازٍ، لا فعلي ولا وهمي، طالما أنَّ جيش هذا النظام ومعه القوات الإيرانية النظامية يواصل خرق الهدنة المتفق عليها بغطاء جوي روسي فاعل، لتحقيق مستجدات في ميادين القتال ستحسم الأمور وستتحكم بسيْر هذه المفاوضات العدمية والعبثية.

لقد جاء وفد نظام بشار الأسد إلى مفاوضات جنيف ببضاعته السابقة نفسها: «لا لهيئة حكم انتقالي بكامل الصلاحيات، بل حكومة وحدة وطنية تشارك فيها المعارضة بكل أطرافها إلى جانب النظام وبمشاركة ديكورية من المستقلين المرتبطين بخيوط خفية بالجنرال علي المملوك وبالمخابرات السورية» وكل هذا، بينما تواصل القوات الحكومية، ومعها حراس الثورة والجيش الإيراني وعشرات التنظيمات الطائفية والمذهبية، وبالطبع «حزب الله» اللبناني، خرق الهدنة المتفق عليها وعلى كل الجبهات وتواصل عملياتها العسكرية لخلق معادلات مستجدة وموازين قوى جديدة في ميادين القتال، لإنهاء وساطة دي ميستورا، وطي صفحة الحلول السياسية بصورة نهائية.

ولهذا، فإنه مع المعارضة السورية ومعها أجنحتها العسكرية الحق كُلُّه في أنْ تُهدِّدَ بالانسحاب من العملية السياسية إنْ لم يوُقف النظام عملياته العسكرية، وعلى الجبهات كلها، وإنْ لم يضع الروس حدًا لتدخلهم العسكري الذي هو في حقيقة الأمر لم يتوقف ولا للحظة واحدة منذ إعلانهم عن انسحابهم «المسرحي» الوهمي، وأيضًا إنْ لم يواجه الإيرانيون ضغطًا عربيًا ودوليًا فعليًا لسحب قواتهم النظامية وغير النظامية من سوريا، ويضعوا حدًا لتدخلهم السافر في شؤون هذا البلد العربي وفي الشؤون العربية الداخلية.

لقد كان واضحًا منذ البدايات أنَّ هذا النظام الاستبدادي، مدعوم بالتدخل العسكري الإيراني بأشكاله كافة، وبالاحتلال الروسي الغاشم الذي يشكل إهانة للعرب كلهم، غير معني بأي حلٍّ سياسي وبخاصة حلِّ «جنيف1»، وأنه في حقيقة الأمر يراهن على عامل الوقت لإلحاق هزيمة مدمرة بالمعارضة السورية، ويخلق واقعًا جديدًا يمكّنه من البقاء في الحكم كما بقي والده، وبحيث ينقله إلى ابنه «حافظ» الصغير كما نقله أبوه إليه، ويبدو أنَّ الروس لا يعارضون هذا الأمر فعليًا، خاصة إذا بقي الأداء الأميركي تجاه هذه الأزمة كئيبًا ومزريًا، الذي من المنتظر أن يزداد كآبة وبؤسًا كلما اقترب موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية.

كان الرئيس السوري السابق حافظ الأسد قد واجه تحديات قريبة من كل هذه التحديات التي يواجهها ابنه، خاصة في سبعينات وبداية ثمانينات القرن الماضي، لكنه كان مستفيدًا من دعم الاتحاد السوفياتي، ومستفيدًا من إتقان فنِّ التلاعب بالمتناقضات العربية والإقليمية والدولية، وقد تمكن من «تفكيك» كل هذه التحديات، وأخطرها تحدي شقيقه رفعت قائد سرايا الدفاع في عامي 1983 و1984 وهذا هو ما يراهن عليه ابنه بشار الأسد الذي لا يحظى بما كان يحظى به أبوه من التفاف فعلي، إنْ من قبل ضباط الطائفة العلوية الذين كانوا يسيطرون على كل شيء في «الجيش العربي السوري» وفي الأجهزة الأمنية، أو من وضع عربي وإقليمي ودولي مريح.

إن هذا هو واقع الحال، وإنَّ هذه هي مراهنات بشار الأسد وأيضًا مراهنات حلفائه الروس والإيرانيين، ولذلك فإنه على المعارضة السورية، التي أُدخلت ربما مرغمة في دوامة هذه المفاوضات المسرحية العدمية، أن تعتمد على مواجهات ميادين القتال كي تجبر هذا النظام ومن يسيرون على طريقه ويحاربون حربه على الإذعان لحل «جنيف1» وتوابعه وتجلياته وملحقاته، إذ ليس بالإمكان إسقاطه بضربة عسكرية حاسمة بعد إغراقه في ظروفٍ كالظروف التي كان يغرق فيها قبل التدخل العسكري الروسي، الذي تحول إلى احتلال كأي احتلال عسكري عرفه التاريخ القريب والبعيد.

لا يمكن أنْ يرضخ هذا النظام ويقبل بحل «جنيف1»، الذي تصر عليه المعارضة السورية ومعها بعض العرب وبعض دول الإقليم، إلا بعد إجبار الروس والإيرانيين على الانسحاب من سوريا، وهذا يستدعي تغيير موازين القوى العسكرية على الأرض، ويستدعي دعمًا عربيًا عسكريًا حقيقيًا، ويستدعي أيضًا إفهام الأميركيين بأن هذه السياسات البائسة التي اتبعتها هذه الإدراة القصيرة النظر إنْ في الشرق الأوسط، وإنْ في المنطقة العربية، سوف تبقى تلاحق أي إدارة جديدة، عليها أن تدرك منذ اللحظة الأولى أن باراك أوباما قد ترك لها خصمًا قويًا هو روسيا الاتحادية التي أرادها فلاديمير بوتين نسخة من الاتحاد السوفياتي «العظيم» عندما كان في ذروة تألقه وعنفوانه وقوته.

إنه لا يجوز أن تبقى المعارضة السورية تتمسك بهدنة عسكرية ركلها هذا النظام السوري، معتمدًا على حلفائه الروس والإيرانيين، بحذائه، ثم إنه سيكون مقتلاً حقيقيًا أن تبقى هذه المعارضة تدور في حلقة هذه المفاوضات العدمية المفرغة، وكل هذا بينما بشار الأسد، ومعه روسيا وإيران، ماضٍ في هذا المخطط المشار إليه آنفًا، فالحل المعقول الذي هو حل «جنيف1» يعتمد أولاً وأخيرًا على موازين القوى العسكرية، وعلى ما يمكن تحقيقه في ميادين المواجهة، وهذا يتطلب الاهتمام بالجوانب العسكرية أكثر كثيرًا من الانشغال بهذه المفاوضات المسرحية العقيمة!

&

&

&