&زياد الدريس

1

منذ أن كرست قبل سنوات عديدة جهدي في البعد عن غلواء موجة التصنيف المتحزّب، وسحْب رجليّ من الانجرار في رمال الاصطفاف الاجتماعي، تلك الفخاخ التي تسلبك إرادة التفكير الحر والنقد المستقل، والتي إن خرجت منها لا تصبح متردداً في امتداح صواب رأي من اعتدت مخالفته ولا في ذم خطأ رأي من اعتدت موافقته.

منذ بدأت هذه المقاومة الذاتية الطويلة والمستمرة، بتّ لا أحب الدخول في معترك النقاشات التي تنطوي على خلفية تصنيفية، وعلى طريقة تفكير اصطفافي يمكن وصفه بأنه حوار سيفضي إلى نتائج (مسبقة الصنع)!

يمكنك مسبقاً تخمين الموقف الذي سيميل إليه هؤلاء المصطفّون من الطرفين في نقاش أي قضية، مهما كبرت أو صغرت. وإذا احتار أحدهم يوماً أمام قضيةٍ ما فسيتريّث قليلاً في إعلان موقفه، ليس للتفكير والتأمل، بل لاستبيان موقف التيار العام الذي يتبعه كي يصطفّ معه.

2

في كل موضوع يثير جدلاً، يوجد نوعان من التناول: نقاش واصطفاف.

وهواة، بل غواة الاصطفاف، جعلوا من كل قرار أو حدث، للأسف، فرصة جديدة لتصفية الحسابات بين التيارين المتناحرين دوماً في بلاد العرب، (الإسلاميين والليبراليين).

وحين تحذّرهم من الاصطفاف، يحكم كلٌّ منهما عليك بأنك متحيز لرأي الطرف الآخر.

أو يظنّون بأنك تحثهم على الامتناع عن قول رأيهم أو تدعوهم إلى الحياد الذي لا يليق بتلك اللحظة.

أو يعظونك بأن الحياد في الوقوف مع الحق هو ظلم، وهم يعلمون بأنك لم تدع للوقوف أمام الحق محايداً أو متفرجاً، لكنك فقط تحاول وضع منهجية للوقوف مع الحق... عبر الإيمان بالفكرة، لا الاصطفاف مع المفكر.

هم لا يسيئون فهمك لأن حديثك لم يكن واضحاً، أو لأن تعبيرك عن فكرتك لم يكن دقيقاً، قد يصدق هذا على قلّة فقط، أما الأغلبية فهي حكمت عليك حتى قبل أن تقرأك، أو حُكم عليك لها بالنيابة عنها.

‏‏المشكلة عندهم هي في الخلط بين مفاهيم الحياد والاصطفاف والاستقلال.

3

ربما كان من المهم التفريق هنا بين المواقف الثلاثة:

الحياد: أن تختار عدم الانحياز لأحد الرأيين.

‏الاصطفاف: أن يختار لك الآخرون الانحياز لأحد الرأيين.

‏الاستقلال: أن تختار أنت بنفسك، من دون ضغوط أفراد أو تيار، الانحياز لأحد الرأيين.

‏ولتقييم أنواع المواقف الثلاثة، فإن:

‏الأفضل بالطبع أن يكون لك رأي مستقل.

فإن لم تستطع فالأقل أفضلية أن تكون محايداً.

فإن لم تحذر فالأسوأ أن تقع في فخ الاصطفاف.

قُل رأيك بكل حرية وشجاعة، لكن لا تسمح لهم أن يستجرّوك للاصطفاف مع هؤلاء أو أولئك.

‏لا تكن مصطفّاً، كن مستقلاً.

‏لا تكن محايداً، كن عادلاً.

هذه ليست دعوة لتعميم الحياد البارد، بل هي دعوة لتحجيم الاصطفاف... القابل للاشتعال!

&