عادل درويش&&

احتفلت أمم المملكة المتحدة (إنجلترا، ويلز، اسكوتلندا، وآيرلندا الشمالية) والكومنولث، الخميس، ببلوغ الملكة إليزابيث الثانية عامها التسعين. جيوش وحدات البث الخارجي الأجنبية خارج قلعة ويندسور تعكس اهتمام الملايين (خارج منظومة الكومنولث) وإعجابهم بالملكة والتقاليد العريقة والوعي التاريخي بأفضلية الملكية الدستورية لاستقرار الدولة والتطور نحو الرفاهية.

الملكة إليزابيث، أطول من جلس على عرش بريطانيا وصاحبة أطول فترة رئاسة دولة عالميًا، بدأت الاحتفال بالصورة التي عرفها بها العالم منذ توليها العرش قبل 64 عامًا. أداء واجباتها المعتادة بتفقد مركز فرز وتوزيع البريد في منطقة ويندسور، وشكر السعاة على توصيل الرسائل في أصعب الظروف الجوية. ثم التجوال بصحبة رفيق العمر الأمير فيليب بين رعيتها. بعضهم قضى يومين نائمًا على الرصيف ليضمن أن يكون في مكان تراه سيدة يعتبرها الأم الحكيمة للشعب. معظمهم حمل باقات الزهور وبطاقات التحية وهدايا بسيطة قبلتها منهم بابتسامتها الدائمة وصبرها الذي، بشهادة الجميع، لم تفقده يومًا. بل ويشهد جميع الساسة، بمن فيهم رئيس وزرائها الثاني عشر، ديفيد كاميرون (كان السير ونستون تشرشل أول رئيس لوزرائها عند تتويجها في 2 يونيو/ حزيران 1953) بحكمتها ونصائحها مهما بلغت حماقاتهم السياسية. اكتظت شوارع قرية ويندسور الصغيرة بالآلاف، بعضهم من المحليين، والآخرون من أقصى أطراف المملكة، والبعض من بلدان الكومنولث. لاحظ المعلقون قلة عدد أطفال المدارس الابتدائية المحلية - باستثناء فصل واحد صحبتهم معلمة الموسيقى بعد تدريبهم على أغنية «عيد ميلاد سعيد». كان معظم الحضور من البالغين، والأطفال دون الخامسة (سن الالتحاق بالمدرسة الابتدائية). ورغم ابتهاج الغالبية الساحقة من الشعب (واتفاق جميع نواب البرلمان بمن فيهم ذوو النزعة الجمهورية كزعيم المعارضة العمالية، على أن الملكة إليزابيث، بصرف النظر عن موقفهم من العرش كمؤسسة للدولة، هي الأساس المتين الذي ترتكز عليه الأمة) فإن اليوم الذي احتفلت به المملكة المتحدة شعبًا ومؤسسات، وطبعًا صحافة، لم يُعلن عطلة رسمية، أي لم تُعطل فيه المدارس ويخرج فيه الأطفال ملوحين بالأعلام.

عطلة رسمية تتطلب قرارًا من البرلمان، وكان من شبه المؤكد التصويت على قبوله، فحتى أي نائب جمهوري النزعة، ما كان يجرؤ على أن يغضب ناخبيه من أبناء الدائرة ويصوت ضده. لا يمكن لأي قرار برلماني أن يصبح قانونًا نافذًا ويدخل حيز التطبيق إلا بتوقيع الملكة. ويعلم الجميع أنها لم تكن ستقبل بتوقيع قرار إعلان عيد ميلادها التسعين عطلة قومية لسببين هما في أساس شخصية الملكة ونشأتها. الأول أنها جادة تؤمن بوضع الواجب قبل المتعة والترفيه، ولم تكن ستقبل بتضحية يوم عمل وتعطيل أطفال المدارس عن التحصيل. فقد ضحت طوال حياتها بحياتها الشخصية ووضعتها وأطفالها جانبًا في سبيل خدمة الأمة والكومنولث. السبب الثاني أن الملكة من جيل أمهاتنا اللاتي صقلتهن تجربة الحرب العالمية الثانية الأليمة، لا تستسيغ «الدوشة وغلبة الأفراح»، كما كانت أمي تقول.

عندما اندلعت الحرب العالمية الثانية كانت الأميرة إليزابيث لا تزال في الثالثة عشرة، وأصبحت نموذجًا وقدوة لبنات بريطانيا عندما ألقت خطبة وهي لم تبلغ الرابعة عشرة في الـ«بي بي سي» تناشد الأطفال الصمود في الحرب، والحفاظ على رباطة الجأش لأنهم المستقبل. كانت دون الخامسة عشرة عندما تطوعت في الجيش، وقضت فترة الحرب في ميكانيكا إصلاح العربات الحربية، وعاشت سنوات تقشف الحرب. هذا هو محور شخصية الملكة التي يعرفها كبار الساسة، وبالتالي لم يجرؤ أحد على أن يقترح مجرد فكرة إعلان عيد ميلادها التسعين عطلة قومية في البلاد، لأنهم يعرفون أنها كانت سترفض الفكرة برمتها.

كانت لا تزال في العاشرة عندما أدخل عمها الملك إدوارد الثامن البلاد في أزمة دستورية برغبته في الزواج من مطلقة أميركية (واليس سيمسون). ملك بريطانيا والكومنولث مؤسسة فريدة، صحيح أنها ملكية دستورية والكلمة الأخيرة للبرلمان، إلا أن من يضع على رأسه التاج هو أيضًا رأس الكنيسة الأنجليكية، وبالتالي لم يكن من المقبول زواجه من مطلقة أميركية. وأصبح إدوارد الثامن الملك الوحيد في تاريخ بريطانيا الذي تنازل عن العرش برغبته في ديسمبر (كانون الأول) 1936. عدل البرلمان قانون تسلسل وراثة التاج (يلزم تمريره للابن الأكبر)، فخلفه شقيقه الأصغر ألبرت دوق كمبردج، وتوج باسم جورج السادس ليواجه، وزوجته إليزابيث الأم، وابنتاه إليزابيث ومارغريت، زوابع مهمة لم يعدّ أسرته لها. داهمت الحرب العالمية الثانية جورج السادس، وأصر تشرشل على أن يقدم الملك نفسه كرمز قيادة البلاد والإمبراطورية كلها، ودرع الصمود ضد النازية، وكان تجواله وزوجته وابنتيه بين رعيته وسط أنقاض ما بقي من لندن ومدن بريطانيا التي دكتها قنابل هتلر، وقود روح رفض الاستسلام والصمود والمقاومة.

تجربة طفولة وضعت الأساس المتين للأميرة إليزابيث التي ألقت الأقدار بأعباء الإمبراطورية على كتفيها بوفاة والدها المفاجئة في ديسمبر 1952 وهي أم شابة في عقدها الثاني، لتؤدي القسم لخدمة الشعب وحمايته والدولة والكومنولث والكنيسة الأنجليكية «طوال البقاء على قيد الحياة قصرت أم طالت»، قسمًا لم تقصر في تنفيذه أبدًا في وظيفة فرضت عليها بلا خيار التقاعد يومًا.

الملكة ترى منصبها واجبًا تقدسه كجندي في ميدان القتال، لا أولوية تسبقه (أثناء مهمة رسمية مرة أفلت الأمير تشارلز من يد المربية واندفع بغريزة طفل في الرابعة نحو أم افتقدها لبضعة أيام، فأزاحته جانبًا لتستقبل ضيف المملكة في المطار ليدوس الواجب الوطني فوق غريزة الأمومة).

وحسب مصادر القصر، ترى الملكة أن ترؤسها للكنيسة يعني حماية كل الأديان والعقائد التي تتبعها شعوبها بمساواة. الملكة اختارت الخبازة المسلمة نادية حسين (الفائزة بجائزة الـ«بي بي سي» لأفضل الخبازين) لإعداد كعكة عيد ميلادها التسعين، في إشارة واضحة إلى أنها ملكة لكل الرعايا باختلاف أعراقهم ودياناتهم.

فالملكة رمز قوة واستقرار وتوحيد لعناصر الأمة.

النظام الجمهوري ينتخب رئيسه بنسبة الثلثين في أقصى حالة، ويظل مرفوضًا من أقلية معتبرة، بينما التاج توافقي. انتخاب رئيس دولة إنجليزي يستفز الاسكوتلنديين والعكس، بينما تراعي الملكية توحيد الجميع. زوج الملكة (دوق أدنبره) عاصمة اسكوتلندا، ولي العهد (أمير ويلز) أما «الكولونيل العام للقوات الآيرلندية» فكانت أم الملكة، وانتقل المنصب لكاثرين دوقة كمبردج، زوجة حفيدها الأمير ويليام.

خمس سنوات بينت استقرار الأنظمة الملكية في أفريقيا والشرق الأوسط لتسلم من كوارث الانتفاضات والخراب الذي حل ببلدان جمهوريات ظهرت بعد إجهاز الانقلابات على أنظمتها البرلمانية الملكية.

ولعل في استمرارية واستقرار ما تمثله ملكة بريطانيا اليوم عبرة ونموذجًا لدعاة الإصلاح في البلدان العربية.

&

&

&