مأمون فندي&

&أخطأ صاموئيل هنتنغتون عندما تحدث عن صراع الحضارات في صورتها المكانية، إذ قسم العالم على أساس جغرافي أو جيوسياسي ليبرر لنظريته، الصراع الأهم والأكثر فائدة بشكل تحليلي هو صراع الأزمنة بين الحضارات بمفهوم هنتنغتون الذي طرحه وداخل الحضارة الواحدة بالمفهوم الذي أطرحه هنا، وبهذا يكون التحليل أكثر شمولا وأوسع نطاقا.

هناك رغبة لدى كثيرين وبدافع الإصرار على هوية الدولة الوطنية أن يتجاهلوا الاختلاف والفوارق الحضارية والزمانية داخل الإقليم الواحد، فنتحدث عن أميركا وعن إيطاليا أو في عالمنا العربي عن سوريا أو مصر أو المغرب كأنها دول، مثل القميص الذي عاد من المكواة لتوّه من دون أي كرمشات. الدول ليست هكذا والحضارات ليست هكذا. ففي داخل الدولة الواحدة تجد أناسا يعيشون في أزمنة مختلفة بنمط إنتاج مختلف يخلقان وعيا مختلفا. على سبيل المثال في أميركا تجد أزمنة مختلفة، فمثلا في كاليفورنيا ووادي السليكون تحديدا يعيش البشر في زمن السوفت وير وما بعد الحداثة (نهاية القرن العشرين وبداية القرن 21) وفي بنسلفانيا وتحديدا في مدينة بتسبرغ يعيش الناس في عالم الصناعة، حيث مصانع الحديد وغيرها وهو عالم الحداثة أو عالم الصناعة (القرن 19 حتى ستينات القرن الـ20)، أما في ولايتي ألاباما وميسيسيبي فالمجتمع الأميركي يعيش في حضارة الزراعة، أي ما قبل القرن التاسع عشر، هذا بشكل عام وحتى داخل هذه الولايات هناك ثقافات تعيش في القرن السابع، مثل جماعات الأميش في بنسلفانيا الذين لا يؤمنون حتى بإدخال الكهرباء إلى منازلهم، وما زالوا يركبون عربات تجرها الخيول، لرفضهم لعالم السيارات على أنها ضد الدين.

بشكل أوسع كان هناك أيضا الجنوب الزراعي ضد الشمال الصناعي، مما أدى إلى ما عرف بالحرب الأهلية الأميركية (1861 إلى 1865) وكان أساسها معركة استغلال الإنسان في نمط الحياة الزراعي الجنوبي (العبيد) مقابل نمط إنتاج جديد صناعي يرفض العبودية. النقطة هي أن الحرب الأهلية الأميركية كانت صراع أزمنة، ولكن حدد المكان ملامحها، صراع بين زمانين داخل الحضارة الواحدة. وهناك كثير ما يمكن توضيحه هنا للإسهاب في هذه النقطة، ولكن يمكن للقارئ أن يبحث عنها للمزيد، ولا يتسع مقال هكذا لمثل هذا الشرح.

الناظر أيضا إلى دول مثل إيطاليا والمكسيك لا تفوته ملاحظة صراع الأزمنة بين جماعات التشيابا المكسيكية، الذين يعيشون في عالم ما قبل الحداثة مع الدولة الحديثة في المكسيك. الشيء نفسه تراه في التاريخ الإيطالي بين جنوب ما قبل الحديث وشمال حديث للدرجة التي يتحدث فيها الإيطاليون بأن المسيح توقف عند بوابات الجنوب، أي أن التنمية أو الرحمة الإلهية لم تصل الإنسان الجنوبي، وصراع الأزمنة في إيطاليا مزمن.

أما في عالمنا العربي فكان واضحا صراع الأزمنة بين جنوب السودان المسلم وشماله، الذي يدين بديانات أخرى، ولكن لم يكن الصراع صراع ديانات وحضارات، بل كان في المقام الأول صراع أزمنة.

في مصر أيضا متى ما ترك القطار الجيزة بعد هرم خوفو، وجدت نفسك في حركة بطيئة للزمن ترى الزرع والنخيل والفلاحين ونساءهم حول النهر القديم، لتدرك أنك خرجت من زمن حداثة القاهرة المنقوصة، إلى عالم ما قبل الحداثة في الجنوب المصري. الناس في الشمال من عالم وزمن، والناس في الجنوب من أزمنة وعوالم أخرى.

ترى الصورة ذاتها في مملكة المغرب في الفارق فيما يسمى مجازا ببلاد المخزن (الحكم) وبلاد السيبا (ما هو خارج نطاق الحكم في الأطراف).

كما أن هناك فارقا زمانيا وحضاريا بين العالم العربي والغرب، مما يدفع بصراع الحضارات كما تخيله هنتنغتون، هناك أيضا صراع أزمنة داخل الغرب نفسه وداخل الدولة الواحدة، كما ذكرت في الحالة الأميركية والإيطالية، ويمكن أن نضيف إليها صراع شرق أوروبا في يوغوسلافيا السابقة.

أيضا داخل الشرق وخصوصا عالمنا العربي، الدولة ليست مستوية أو متساوية في علاقات الأطراف بالمركز، وواضحة للعيان تلك المساحة بين الأزمنة داخل الدولة الواحدة، ويستطيع أي طالب مبتدئ في العلوم الاجتماعية، أن ينظر لبلده بشكل نقدي ليرى صراع الأزمنة بين أناس يعيشون عالم الحداثة، وما بعد الحداثة من ناحية، وأناس يعيشون في القرون الوسطى.

حرب «داعش» في سوريا ومصر والعراق هي أيضا في المقام الأول، صراع أزمنة قبل أن يكون صراع آيديولوجيات وأماكن.

التنمية غير العادلة بين المركز والأطراف في بلداننا تعمق من الهوة الزمنية بين المناطق والبشر، فتصب الزيت على نار صراع الأزمنة.

النقطة الأساسية هنا هي أن صراع الأزمنة يفتح آفاقا رحبة للتحليل، وفهم العالم بطريقة أكثر شمولا من بدائية مفهوم صراع الحضارات المسجون في الجغرافيا السياسية ومحددات المكان.