&عادل يازجي

يلاحظ في الأزمة السورية أن الموالاة والمعارضة، كلاهما يستنكر الطائفية، والتعصّب، والتطرّف، في خطابه الإعلامي، وينادي بالعلمانية إما نصاً صريحاً لا لبس فيه ولا غموض، أو مداورة بتسمية تقترب من المصطلح بمدلوله السياسي، ويرتكز المستقبل في رؤية كل منهما على التعددية السياسية، وتداول السلطة، إذاً لا خلاف على المستقبل الديموقراطي التعددي في أدبيات كل من الطرفين!

وبالتالي سينعم السوريون بالديموقراطية والعلمانية (حتماً) أياً كان المنتصر في هذه المعركة التفاوضية، السياسية، الدولية، مهما شكّك الخبثاء والمغرضون بالنوايا، لأن الخطاب الإعلامي لكل طرف يشكّك بنوايا الطرف الآخر، ويتّهمه (ظلماً) بالإقصائية والتستُّر وراء الشعارات العلمانية، ويدعم اتهاماته (الباطلة) بالممارسات على أرض الواقع ويفنّدها.

بديهي في أمر ملتبس كهذا، وفي مفاوضات تلقى اهتماماً عالمياً غير مسبوق، أن تكون هذه المسألة واضحة، ليس بإيراد المصطلح نصاً، فهو حمَّال أوجه، مثله مثل تراثنا العربي والإسلامي كله، ووضوحها يقتضي وضع خريطة طريق ليس سياسياً فحسب، بل ثقافياً - وهو الأهم - لأن تحقيق مضمون هذا المصطلح عملياً يقتضي خطة ثقافية تغييرية شاملة، تستند إلى قوة القانون لحمايتها، باعتمادها نصاً واضحاً في الدستور المرتقب، ويُناقش النص في المفاوضات لإقراره، وتغطيته سياسياً، وحمايته من الخروق المحتملة، ودحض الشك باليقين، إذ لا تفاؤل حتى الآن بالحل السياسي بعامة، فكيف بنص يستند إلى مصطلح إشكالي، ذي نظريات تختلف، وتأتلف، في كثير من حيثياتها الفكرية والتطبيقية؟

ما رشح عن الجولة الأولى للمفاوضات حول هذا الموضوع تحديداً (العلمانية أم المدنية)، يوحي بأن كل طرف يزايد على الطرف الآخر في ديموقراطيته، وتعدديته، وعدم تعصُّبه، وتسربله بالعلمانية قلباً وقالباً، أحدهما يكتفي بالنص الحرفي، والثاني بنص آخر يساويه ويزيد قليلاً.

ليس المقصود هنا نقد طرف على حساب طرف آخر، بل الشك في الأهداف والنتائج ما لم توضع آلية سياسية، ثقافية، قانونية لضبط مسار الناتج التفاوضي حول هذا الموضوع الضائع بين الأطراف السياسية، والعسكرية، لدى كل من النظام والمعارضة، هذا إذا تفاءلنا بأن الحل السياسي على الأبواب استناداً إلى احتدام المعارك (السياسية) التي تنتهي عادة بـ /لا غالب ولا مغلوب/، وهذا هو الوسط (الممتنع)، في الأزمة السورية العميقة الأبعاد.

هذه الرؤية مجرد نقطة نظام أمام أطراف التفاوض كلها حول الطاولة أو من وراء الستار، في الداخل والخارج، نستند فيها إلى أن التاريخ الثقافي القريب والمعاصر لبلاد الشام بعامة، لم يُقرأ حتى الآن قراءة سياسية، تبيّن هــويته وتأثيره بل دوره في صنع سياسات القرن الماضي، ومخلّفاتها، وتغييراتها، وعلاقة ما آلت إليه تلك السياسات بالحاضنة الثقافية التي نمــت وترعرعت بين ظهرانيها، وهل كان ذلك التاريخ الحافل بالبحث والتحليل للتراث العربي، وللتيارات الفكرية والسياسية الأوروبية، يؤســس عامداً أو جاهلاً لما آلت إليه أحوال المشرق العربي في أيامنا هذه؟

هكذا قراءة ليست ترفاً ثقافياً، بل رصد لما خرج من تحت عباءة مرحلة تنويرية نهضوية أفرزت جيلاً بل أجيالاً غير إقصائية، تمارس التعددية براحة واطمئنان (طبعاً في فترات متقطعة قبل طوفان الأحزاب الشمولية)، وغاية الرصد هي إضاءة البدائل الفكرية السياسية المطروحة لوقف الزحف المتطرّف، باعتبارها سبق أن استخدمت، ونجحت مرحلياً، وسرعان ما اختفى تأثيرها، فهل كان وجودها عرضياً، سطحياً، اهتزّ وتخلخل أمام التغيرات اللاحقة؟ وبالتالي هل نعيد النظر بأدواتنا الحالية أم لا؟

هذه التساؤلات تصعب الإجابة عنها في عجالة لتسليط الضوء أمام المفاوضات، وأمام هيئات ومؤسسات الحوار العربية، والإسلامية، والإقليمية، والدولية، لعل أياً منها يوجّه أبحاثه إلى هذه المساحة الزمنية لما حفلت به من تيارات إصلاحية تنويرية، لا للعمل بمقتضاها، بل لقراءة أسباب فشلها، وتدارك عدم غضّ الطرف أمام المفاوضات عن أسباب الفشل في ما يستجد.

التاريخ القريب والمعاصر هو القرن العشرون، وقراءته سياسياً ليس تأريخاً للسلطات الحاكمة، ولا تدويناً لها، بل هي رصد لما لم يُعرْهُ الباحثون الاهتمام الذي يستحقه، ويبدو أنهم اعتبروه عرضياً في سياق أعم وأشمل، أو غضوا الطرف عنه عامدين لعلاقته الملتبسة بالمحظورات المذهبية، إذ كانت العلمانية تمارس فعلياً في تلك المرحلة، ودخلت في المنطلقات النظرية لتيارات الإحياء العربي، الوطنية والقومية، على رغم حملات التيارات الأصولية عليها. وفي كل الأحوال لا تحتاج العلمانية إلى إعادة قراءة، بل قراءة الأرضية الثقافية التي خفيت معالمها وتأثيراتها آنذاك وظهرت نتائجها مؤخراً فإذا بها نقيض ماكان!

المشكلة في التيارات القومية العلمانية لم تكن في آيديولوجياتها، بل في ازدواجية الولاء الفكري الذي انعكس أمراضاً في داخلها، ظهرت في ما بعد من خلال الممارسة السياسية اللاعلمانية، لعدم استنادها إلى فلسفة إجرائية قادرة على ضبط إيقاع الممارسة السياسية.

كُتب الكثير حول ظواهر هذه المرحلة من تاريخ بلاد الشام، أما بواطنها الخفية فما زالت أرضاً بكراً للدراسة والتحليل، غُضَ الطَّرفُ عنها عمداً ظناً بلا أهميتها، فإذا (الحقائق كلها أوهام).

ما حدث لثورات الربيع العربي وتحوُّل ربيعها إلى (خريف عربي) أربك الدول العربية كلها على مستوى الجماهير والمثقفين والأحزاب، والسلطات السياسية الحاكمة، وارتد كل طرف إلى نفسه، وأدواته يعيد قراءتها، حرصاً على حياته، وأتباعه، ومستقبله. ولاشك في أن التطرف هو هاجس الجميع، فأخطاره لا تقتصر على إجهاص الثورات، بل تهدّد الأمن والاستقرار في كل مكان بخلاياه النائمة، التي لا يمكن القضاء عليها بالعصا الأمنية وحدها، بل الأهم من القوة الأمنية، هو الأمن (الثقافي) الذي يخترقه التطرّف في كل مكان، ولا تفيد فيه شعارات العلمنة، فقد أفرغتها الديكتاتوريات العربية من مضمونها، وكأن تلك الأنظمة من خلال تبنيها (الظاهر) للعلمانية، وضعت حداً لإمكانية تطبيقها في المنطقة العربية (على رغم نجاحاتها الأوروبية والعالمية عموماً).

وطالما أن الخطر محلي، وعربي، وإقليمي، ودولي، فما هو دور المنظمات ذات الاختصاص، كالمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (أليكسو)، والمنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم (أسيسكو)، والمنظمة العالمية للتربية والثقافة والعلوم (يونيسكو)؟

طبيعي أن هذه المنظمات لا تعير اهتماماً للتطرّف الذي أجهض الثورات العربية، لكنه لم يتوقف عند هذا الحد، فخطره يعم، ولم يولد فجأةً، بل هو موجود في صلب الأرضية الثقافية والتربوية، وهو من نتاجها الطبيعي قبل الأزمات الحالية وأثناءها، ومن ثم أليس ضرورياً وضع المنابع تحت المجهر بهدف الوقاية والعلاج؟

في ثمانينات القرن العشرين، وضعت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (أليكسو) مشروع إستراتيجية سمّتها: الخطة الشاملة لتطوير الثقافة العربية، إضافة إلى ما سبقها من إستراتيجيات في التربية، والعلوم، ومحو الأمية، وتعليم الكبار، والحق يُقال: إنَّ هذه الإبداعات لا تضر ولا تنفع مطلقاً، وهي تنسجم مع اليمين واليسار، والوسط، والمثالية، والمادية، والمذهبيات المعتدلة والمتطرّفة، والتي بين بين...إلخ.

لا شك في أن هذه المنظمات (أليكسو - أسيسكو - يونيسكو) هي المعنية بالأرضيات التربوية والثقافية التي تصنع الإنسان، لكنها - واقعياً - لا تعالج أي أمر إشكالي كهذا، وهي باستمرار (قلقة) أسوة (بقلق) الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، لذلك يُلقى العبء حالياً على هيئات الحوار ومؤسساته عربياً ودولياً، لضبط تعليم الأديان في أطر عقلانية ضمن منظومة معرفية أوسع محورها (دراسة الأديان)، والبحث في (المتون) الأساسية، وفرزها عن الهوامش، والقراءات، التي ضاعت المتون في ركامها، وغربلة هذه الهوامش والقراءات ليستقيم التوجُّه إلى الهدف المنشود.

&