&ابراهيم المطرودي

المسلمون يعدّون أنفسهم ملاك حضارة، وصناع مجد، ويؤرقهم أن يكون ماضيهم على تلك الصورة المشرقة، والهيئة البهيّة، وهم يعيشون الآن خارج الزمن، وبعيدا عن المشاركة في صناعته، وتلك الصورة الماضية تجعل سؤال النهضة أكثر إلحاحا، وأعظم حضورا؛ لأن المسلمين يريدون ردّ الاعتبار لدينهم، وسلفهم، بل لعلّ رد الاعتبار للدين والسلف أفعل في تفكيرهم من تحقيق تقدمهم، ونيل مجدهم المعاصر، وهذا ما يجعل سؤال النهضة عند الكثيرين محاطا بالماضي وأهله من جديد، فيبدو وكأنه سؤال ما كان له أن يكون لولا الحميّة للدين وأهله الأولين، وهكذا يضعف السبب الواقعي، وهو نموذج الأمم المتقدمة الآن، ويظهر كأنه نموذج غير ذي جدوى في إثارة سؤال النهضة، والدفع إليه، وكأن هؤلاء المسلمين يقولون لهذه الأمم: نحن لم نفكر في النهضة بعد أن رأيناكم، وإنما كنا مهمومين بها من قبل، ومشغولين بالتفكير فيها من أول؛ لأن سلفنا كان قد شيّدها، وبناها، وما زلنا مشدوهين بما قدّمه، وتمكّن من تشييده.

ربّما يبدو هذا القول بعيدا، والذهاب إليه غريبا؛ لكننا حين نستحضر موقف المسلمين من أسلافهم، ونضعه أمامنا حين التفكير في القضية؛ سيظهر لنا أنه قول قريب وليس غريبا، ومذهب مقبول وما هو بمنكر؛ فالمسلمون ينظرون إلى أسلافهم، قربوا أم بعدوا، نظرة نزاهة، يشوبها كثير من التقديس، ويُحيط بها كثير من الإجلال، وهذا ما يجعلهم يأنفون من عدّ السلف جزءا من مشكلة النهضة، وسببا من أسباب غيابها، ولا يبقى أمامهم إلا أن يجعلوا السبب الأول والأخير هو في المسلم المتأخر الذي تخلّى عن دينه، واستدبر هدي أسلافه، وهذا ربما يُفسّر فشوّ خطاب جلد الذات من قبل كثير من الوعاظ والدعاة؛ لأن هؤلاء وغيرهم من المنتسبين إلى الخطاب الديني لو كانوا يرون جزءا من مشكلة النهضة راجعا إلى السلف، وما تركوه لنا من تراث؛ لما حمّلوا المسلم المعاصر عيوبه وعيوب أسلافه، ولكان لهم دور في نقد التراث، وتتبع هنات صنّاعه الذين كان لهم دور في المآل الذي صرنا إليه، وأصبحنا مسجونين فيه.

البناء الثقافي للمسلمين يستبعد السلف من مشكلة النهضة وسؤالها، سواء أكان السلف مذاهب وأئمة أم دولا وساسة، ويصبّ جهوده كلها تقريبا على المسلم المعاصر الذي فقد أسباب قوة السلف، وابتعد عن دينه.

ولو أننا انصرفنا إلى التراث ونقده، والسلف وتصحيح أخطائهم، واستحضرنا ذلكم حين نقاش قضية النهضة وسؤالها؛ لربما وجدنا ثمّ أهم أسباب غياب النهضة، وأعظم الحوائل دونها، ولعرفنا أنّ السلف الذي تنتمي له طوائف المسلمين، ويختلفون فيه، ويُكثرون من إجلاله، كان له دور في غياب النهضة، وخفاء دروبها الموصلة إليها.

لم يرض بعض القراء حديثي عن دور الزهد في إفشال النهضة، ومشاركة ثقافته في استبعاد سؤالها، ورأوا أنني قد أتيت خطأ كبيرا، وارتكبت زللا عظيما، وأحببت أن أُوضح لهم في هذا المقال أنّ مشكلة هؤلاء القراء ليست في قضية الزهد وصورته التي تحاول كثير من الروايات نشرها، وإذاعتها بين المسلمين، وإنما مشكلتهم الحقيقية عندي أن الحديث عن الزهد ودوره في إفشاله النهضة إقرار بدور السلف، وما تركوه لنا، وهذا ما يُرفض من قبل هؤلاء، ويكادون يُجمعون عليه، وكيف يقبلون أن يكون ما تركه السلف سببا في غياب النهضة، ومانعا من موانعها، وهم يُنادون صباح مساء أن نهضتنا مرهونة باتباعهم، والسير على خطاهم؟

وكيف يقبلون هذا وهم يروون أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل القرون الأولى هي خير القرون، وعن تلك القرون رُويت متون الزهد الكثيرة، وذاعت بنسبتها إليهم بين العالمين؟

إن أكثر الأسئلة إشكالا عند هؤلاء، وأعظمها خطرا، وأكثرها إثارة للريبة، هي تلك الأسئلة التي تنطلق من دور السلف، وما خلّفوه لنا في عوق المسلمين المعاصرين عن النهضة، وحجزهم عنها، وهم لهذا ينتهون إلى تقديس الأولين، وعدّهم بشرا خارج دائرة البشر، ومثل هذه المواقف تجعل أهم تجربة للمسلمين، وهي تجربتهم الماضية، خارجة عن دائرة الدرس والاستفادة؛ لأن كل ما يُدرس، ويُستفاد منه، لا بدّ أن يكون فيه الحسن وغيره، بل ربّما كانت فائدة الإنسان من أخطاء غيره أعظم من فائدته من حسناته وإصاباته، ولعل هذا الصدود عن أخطاء الماضي يجعلني هنا أدّعي أن فكرة السكوت عن السلف وما تركوه لنا ليس خاصا بالصحابة وما شجر بينهم، وإنما هي قضية فكرية عامة، يُراد منها أن يظلّ تأريخ المسلمين الأولين خارج الدراسة والنقد، وهذا الموقف من التأريخ وأهله ليس سوى صورة واضحة لما نعاني منه اليوم، وهو عدم الانفكاك في وعينا بين ديننا وتأريخنا، وبين ديننا وأنفسنا؟

مشكلة ما أكتبه عن النهضة، وما كتبته، أنه يريد أن يبحث عن أسبابٍ في الماضي أدّت لغيابها، ودفعت بنا بعيدا عنها.

إن مشكلتي مع بعض القراء أنني أحاول التدليل على أن السلف وما كانوا عليه كان وراء جزء من حالنا اليوم، وذاك هو الشيء الذي يرفضونه، ويحبون عدم الخوض فيه؛ لأن هذا الخوض يقود إلى تشكيك الأجيال بالأسلاف، وإذا شكّكهم فيهم؛ فلن يكون لهم قدوة ينتهون إليه، ويعتمدون في سيرهم عليه، ومن هذا المنطلق يُمكن حسب رأيي فهم رفضهم للحديث عن الزهد في الدنيا، وفهمه عند المسلمين، في سياق الحديث عن معطّلات النهوض، ومعوّقات امتلاكه.

مفهوم الزهد الذي تدور عليه كثير من الروايات، وتسعى لتأسيسه في الثقافة تلك الحكايات، مفهوم مُعطّل للتنمية، وعائق من عوائق النهضة؛ فالمسلم الذي يسمع هذا الخطاب، ويتكرر سماعه له، ينحاز إلى الركود، ويفزع إلى الرضا بالكائن، ويحمد الله تعالى على الموجود، ولا يُفكّر لحظة واحدة في حمده على الممكن، وشكره على المتوقع، ومثل هذا الإنسان لا يكون سؤال النهضة مقبولا عنده، ومطلوبا من مطالبه؛ فهو راض بالحال، وقانع بها، ولا يجتمع طارح سؤال النهضة، والساعي وراء التغيير، والماضي في تبديل الأحوال، والمؤمن بإمكان النقلة، مع إنسان هذه صفاته، وتلك خِلاله، فالأول يدعوه زهده إلى التقلل من الدنيا، والتخفف منها، والرضىا بما كان، وفي مثل هذا الجوّ يكون سؤال النهضة بطرا، وطرحه ترفا؛ لأنه مضاد للحال التي عليها الزاهد، ومناف لها، ومشكلة هذا الطرح أنه يجعل فهم الدين جزءا من مشكلة النهضة، وعلة من علل ذهابها، وما دام كثير من المسلمين لا يُفرّقون بين الدين وفهمه، فمن المتوقع أن يصبح مثل هذا الحديث نوعا من الباطل، وصورة من صوره؛ بيد أني أطمع أن تكشف المقالات اللاحقة إن شاء الله عن القضية، وتُغيّر من فهم القراء لها.