&&ناصيف حتي&

في الذكرى المئوية الأولى لاتفاقية سايكس بيكو لا بد من ادراج ملاحظات ثلاث :

أولاً: ان الاتفاقية لم تكن "القابلة" الدولية الوحيدة لولادة دول المشرق بحدودها المعروفة ولو انها كانت الأهم ، بل لحقتها اتفاقيات وتفاهمات واعلانات ساهمت في رسم حدود هذه الدول.

ثانياً: اصبحت اتفاقية سايكس بيكو في ادبيات السياسة العربية الرمز القبيح لدور القوى الاستعمارية في صوغ مصير شعوب المنطقة وتقسيمها في دول لا تعبًّر عن انتماءاتها القومية او الهوياتية الاخرى بشكل عام.

ثالثاً: صارت سايكس بيكو الشماعة التي يعلق عليها العديد من السلطات العربية وخاصة العقائدية منها في دول المشرق مسؤوليات الفشل او القصور في التعامل مع التحديات المختلفة من سياسية واقتصادية وتنموية بشكل عام والتي واجهتها تلك الدول تهرباً من المسؤولية الواضحة التي تتحملها تلك الانظمة بطبيعة الامر، وذلك عبر عقود من الزمن بعد استقلالات هذه الدول.

ومن المفارقات المثيرة للاهتمام ان سايكس بيكو التي كانت تعتبر لعنة بالامس صارت اليوم بمثابة نعمة من حيث بقاء الدول في حدودها القائمة وذلك في ظل الزلازل الحاصلة في المنطقة والتي تهدد وحدة هذه الدول.

الشرق الاوسط اليوم يشهد ولادة نظام فوضى اقليمية من اهم سماته حروب باردة واخرى ساخنة، بعضها مباشر وبعضها الآخر بالواسطة في "مسارح نزاعية" وطنية صارت مترابطة ومتداخلة بسبب صدام استراتيجيات الكبار حولها وبشكل خاص القوى الاقليمية. نظام اقليمي يشهد بقوة عودة العنصر الايديولوجي وصراعات الشرعية التي يحملها الى العلاقات بين دول المنطقة وهو ما يزيد من حالة الفوضى الاقليمية. ما نشهده اليوم هو صدام لعبة الجغرافيا السياسية الناشطة في التدخل من جهة والانكشاف المجتمعي الجاذب للتدخل من جهة اخرى في مجمل الدول التي تشهد حروباً وازمات مختلفة ليس فقط في المسرح الاستراتيجي الممتد من بغداد الى بيروت، مسرح سايكس بيكو، بل في المسرح الاستراتيجي الاوسع الممتد من صنعاء الى سيرت. ما يساهم بقوة في جعل هذه الحروب الاهلية والحروب بالواسطة تهدد مستقبل الدول القائمة هو فشل عملية البناء الوطني طوال عقود سبع من الزمن في هذه الدول: الفشل في بناء عقد اجتماعي لم يكن قائماً او في تجديد عقد اجتماعي تخطاه الزمن. نتج عن ذلك الفشل كما ساهم في تعميق تداعياته احياء الهويات ما دون الوطنية المهمشة والخائفة من الحاضر او من المستقبل. هويات صارت الاطراف غير الدول من ميليشيات وقوى مختلفة تقاتل باسمها ولاجلها في حروب عابرة للدول .

والمثير للاهتمام ان ما سماه عالم الاجتماع المصري سعد الدين ابرهيم بالجملكيات او الجمهوريات الملكية هي التي تواجه هذه الازمات في المشرق وفي العالم العربي. ازمات سببها تآكل الشرعية السياسية لهذه الانظمة التي جاءت باسم ايديولوجيات اندثرت مع الزمن بسبب الخطايا والاخطاء التي ارتكبتها هذه الانظمة التي صادرها العسكر في بداية وصولها الى السلطة ثم خطفتها العائلة. فكانت هذه الانظمة اقوى من الدولة التي حكمتها لأنها شخصنت السلطة ومنعت قيام حكم المؤسسات.

فإذا كانت الامبراطورية العثمانية رجل اوروبا المريض في القرن التاسع عشر، فان العالم العربي يبدو منذ مطلع هذا القرن وكأنه رجل العالم المريض الذي يتخبط في ازمات عديدة ومتنوعة. في الذكرى المئوية الاولى لسايكس بيكو يبدو المشرق امام سيناريوات اربعة مستقبلية.

اولاً: سيناريو "السودنة" او ولادة دول جديدة من رحم دولة او اكثر كما حصل في حالة السودان. ولكنني استبعد حصول هذا السيناريو لأن تقسيم دولة لا يمكن ان يتوقف عند حدودها فقط بل سيطاول دول اخرى في المشرق، ولأنه باستثناء الحالة الكردية الداعية للاستقلال بين الحين والآخر لا توجد قوى هوياتية أخرى تدعو الى الانفصال. كما ان مخاطر سيناريو من هذا النوع على مصالح القوى الكبرى الدولية والاقليمية يساهم ايضاً في منع حدوثه.

ثانياً: سيناريو " الصوملة" او انتشار الدول الفاشلة وتلك التي هي في طريقها الى الفشل واستمرار "الصراعات الاجتماعية الممتدة" بدرجات متغيرة من العنف تواكبها تدخلات مستمرة لادارة هذه الصراعات واحتوائها وهو ليس بالامر السهل. يشهد هذا السيناريو مزيداً من تفكك المجتمع وتفسخ الدولة. والجدير بالذكر ان الصراع الدائر بشكل عام ليس بشأن انشاء دول جديدة ولكن من اجل محاولة كل طرف من المكونات الاجتماعية المتقاتلة السيطرة على الدولة وجعلها على صورة مصالحها او الحصول على القطعة الاكبر من "حلوى" السلطة.

ثالثاً: سيناريو " اللبننة" او البيت بمنازل عدة كما يقول المؤرخ كمال الصليبي: نظام يعرف بنموذج الديموقراطية التوافقية القائم على توزيع السلطة بين مختلف المكونات الاجتماعية او الهوياتية في هذه الدولة. ويمكن ان يأخذ شكلاً فيديرالياً في ما لو كان احد المكونات المعنية مستقرا في حيز جغرافي محدد. النموذج اللبناني اليوم قائم كأمر واقع في العراق (de facto) ولو انه يعاني من اختلالات كبيرة بين المكونات الثلاثة. ويرى الكثيرون ان سوريا الغد ستقام وفق نموذج الديموقراطية التوافقية. هذا النظام حتى يقوم بحاجة الى "طائف" مزدوج: "طائف" خارجي يجمع القوى المؤثرة أو التي هي مرجعية الاطراف الداخلية لتتفق في ما بينها حول اطار الحل المنشود وتوزيع النفوذ بين اطراف الداخل ثم "طائف" داخلي يجمع المكونات الرئيسة لتتفق في ما بينها تحت انظار حلفائها الخارجيين حول تقاسم السلطة والصلاحيات في نظام الديموقراطية التوافقية. لكن نظاما من هذا النوع يستدعي ويشجع كافة انواع التدخلات من " الاصدقاء" الخارجيين وهو بحاجة لـ"ناظم" شبه دائم للتعامل مع الازمات التي قد تنتج بعد انشائه. انه في حقيقة الامر نظام قائم على سايكس بيكو داخلي حيث ان كل طرف داخلي يبقى متمسكاً بعلاقاته مع "راعيه" الخارجي عبر علاقات تقوم على التماهي الهوياتي او العقائدي او المصلحي او خليط من الثلاث. انه نظام هش حامل لأزمات متكررة بحيث ان اي تغيير في موازين القوى الداخلية او الخارجية يؤدي الى ازمة، والحالة اللبنانية خير دليل على ذلك.

صحيح ان اللعبة السياسية القائمة على ثنائية الداخلي والخارجي لا تمس بشرعية حدود الدولة لكن المتغير دائما هو حدود جغرافيا النفوذ العابرة للدول والتي تعكس انماط العلاقات القائمة ين القوى الاقليمية النافذة والصديقة لجماعات الداخل الوطني.

رابعاً: سيناريو "الخروج من النفق" او الانتهاء من لعبة المحاصصة المستمرة بصراعاتها ونزاعاتها: نموذج بناء الدولة المدنية وهو سيناريو غير محتمل في المدى القريب ولكنه غير مستحيل. انه سيناريو بناء دولة المواطنة القائم على مشاركة كافة المكونات الاجتماعية على اساس المساواة والاندماج الوطني وليس الاستيعاب وطمس او تهميش هويات البعض وعلى اساس الحفاظ على التنوع ورعايته ضمن الوحدة الوطنية. انه السيناريو الذي يوفر الاستقرار المجتمعي والمؤسسي ويقفل الابواب امام صراعات الآخرين .