&يوسف مكي

في 12 إبريل الماضي، نشرت مقالاً في هذه الصحيفة الغراء، تحت عنوان أزمة الفكر العربي- تقليد وغياب للإبداع. تناول المقال حقبة اليقظة العربية، وكيف تأثرت بالحداثة الأوروبية. وأن التلاقح مع الفكر الأوروبي، ربما كان سبباً في تحالف الثورة العربية الكبرى، مع البريطانيين من أجل التحرر من نير السلطنة العثمانية. لكن ذلك الحال، لم يستمر طويلاً، فقد أودت به اتفاقية سايكس- بيكو التي قسمت مشرق الوطن العربي، بين البريطانيين والفرنسيين، وليتبع ذلك بعد أقل من عام على ذلك التاريخ، إعلان وعد بلفور المشؤوم بإقامة وطن لليهود على أرض فلسطين.

لقد أدت هذه التحولات، إلى انزياح النخب العربية، عن الفكر الغربي، وعن مشروع الحداثة. وكانت ردة الفعل ضد الاجتياح الكولونيالي للمنطقة، هي العداء لفكر الأنوار الأوروبي. ووسط ردود الفعل الغاضبة للنخب العربية، غاب التمييز بين الحداثة، كمشروع لازم للتحول القومي، وبين ما بعدها، كوسيلة من وسائل التوسع الاستعماري.

أدت ردود الفعل الغاضبة، إلى نكوص ملحوظ، باتجاه التراث، في صوره الجامدة والمتكلّسة. وفي مجال الفكر، أدى الفراغ الذي نتج عن النأي عن فكر الحداثة، إلى بروز للإسلام للسياسي، الذي جسده الصعود الكاسح، بقيادة الشيخ حسن البنا لجماعات الإخوان المسلمين، في مطالع الثلاثينات، وتضامنهم مع الحكم الديكتاتوري الاستبدادي، الذي مثّلته حقبة إسماعيل صدقي.

لكن اندلاع حركات التحرر الوطني، في القارات الثلاث: آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، والتي كانت أهم معلم من معالم القرن العشرين، أعادت توجيه بوصلة الفكر العربي، لكن ليس صوب فكر الحداثة، بمعناه الذي تجسده أفكار روسو في «العقد الاجتماعي»، ولوك في«اتفاقيتان»، ومونتيسيكو في «روح القانون»، التي تعبر عنها الأشكال السياسية السائدة، في الأنظمة الديمقراطية في الغرب، بل باتجاهات يسارية، هي أقرب للفكر الماركسي.

وحين خاض الشعب العربي، معارك استقلاله، لم يكن الحديث عن الديمقراطية، والبرلمان والتعددية وتداول السلطة، ضمن أجنداته، بل كانت الحرية وحق تقرير المصير، والعداء للاستعمار، والتنمية المستقلة هي من أوليات برامج تلك الحركات.

نُظر إلى فكر الحداثة، في نسخته الغربية، كموروث استعماري بغيض، وكمعوق من معوقات النهضة، مع أنه في الأصل كان من أساسياتها.

وحين خبا غبار معارك الاستقلال، تزامن ذلك مع اشتعال الحرب الباردة بين العملاقين، السوفييتي والأمريكي. وانقسمت القيادات العربية في انتماءاتها وولائها، بين معسكرين ونهجين. قسم رفع السلاح في وجه الاستعمار، وحصل على صكوك استقلاله معمّدة بالدم، واختار طريق الشرق، أو اليسار لا فرق. رفع شعار العدل الاجتماعي، وسيطرة الدولة على وسائل الإنتاج الرئيسية. والقسم الآخر، رفض مشروع اليسار، لكنه لم يلتحق بمشروع الحداثة الغربي.

شهدنا في الخمسينات والستينات، مرحلة النهوض القومي، وتواصل مرحلة التحرر الوطني، وكانت بوصلتها العدل الاجتماعي. وفي هذا السياق، تم بناء قواعد التنمية الاقتصادية في عدد من الأقطار العربية: مصر والجزائر وسوريا والعراق. ويمكن القول، إن خط الصعود البياني، لهذا النهج بدأ مع الإصلاح الزراعي، وكسر مصر لاحتكار السلاح، وتأميم قناة السويس، وبناء السد العالي، وتحقيق تنمية مستقلة، وقد كانت نكسة يونيو عام 1967، نقطة التراجع في الفكر القومي، رغم أن الإفصاح الصريح عن مغادرته، وتحديداً في مصر، قد تم بعد معركة العبور في السادس من أكتوبر عام 1973.&

لقد أدت التحولات التي ارتبطت بتلك الحرب، إلى انتقال استراتيجي في طبيعة الفهم للصراع العربي - الصهيوني، وتزامن ذلك مع تراجع سريع وملحوظ في موازين القوى الدولية. بدت شيخوخة النظام السوفييتي، جلية وواضحة، وتفردت الولايات المتحدة بقيادة مشروع التسوية بين البلدان العربية والكيان الصهيوني، وحالت دون تدخل الدول الكبرى الأخرى، في مجريات الصراع. وتوجت محاولاتها تلك، بتوقيع اتفاقية كامب ديفيد، بين مصر و«إسرائيل»، برعاية أمريكية، أثناء حقبة الرئيس جيمي كارتر.

ومع سقوط الاتحاد السوفييتي، وانهيار الكتلة الاشتراكية، وتربع اليانكي الأمريكي على عرش الهيمنة العالمية، عاد البريق مجدداً لفكر الحداثة، لكن في نسخته النيوليبرالية، التي عبر فكر المحافظين الأمريكيين الجدد عنها. وكانت في حقيقتها تعبيراً مكثفاً، عن المرحلة الثالثة لما بعد الحداثة، فالمرحلة الأولى ارتبطت بالاستعمار التقليدي، وسادت حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، والمرحلة الثانية، ارتبطت بالاستعمار الجديد، وسادت حتى سقوط الاتحاد السوفييتي، أما المرحلة الأخيرة، فارتبطت بسقوط الحرب الباردة، وكان أهم معلم من معالمها انهيار المؤسسات والمبادئ الناظمة للعلاقات الدولية، وتفرد أمريكا بصناعة القرارات الأممية، واحتلال أفغانستان والعراق، والانهيارات الكبرى التي شهدها الوطن العربي، بعد اندلاع ما بات معروفاً بالربيع العربي.

كل ذلك كان له إسقاطاته المباشرة على الفكر العربي، وأزمته. والمعضلة التي وجهت هذا الفكر، منذ بداياته حتى يومنا هذا هي وضع عناصره، في حالة تقابل مع بعضها. فقد ركزت المرحلة الأولى لليقظة العربية، على الحرية، وأغفلت العدل الاجتماعي. وبالمثل ركزت حقبة النهوض القومي على العدالة الاجتماعية وغيبت الحرية، مع أن مشروع النهضة لا يمكنه التحليق من غير جناحي الحرية والعدل الاجتماعي. المرحلة الأخيرة، المرتبطة بما بعد الحداثة، في طورها الأخير، غيبت شعاري الحرية والعدل، واستبدلت ذلك بنظم فصّلت على مقاسات الطائفة والمذهب والأقلية العرقية.

تجاوز أزمة الفكر العربي، يقتضي المزواجة بين مشروع الحداثة في نسخته الأصلية، ومشروع العدل الاجتماعي، وذلك وحده الذي يعيد لمشروع النهضة العربية ألقه واعتباره.