&أحمد عبد المعطي حجازي&

قلنا إن تجديد الخطاب الدينى ليس مطلبا جديدا، وإنما هو حاجة ملحة لم نكف عن المطالبة بتلبيتها منذ شرعنا فى الخروج من عصور الظلام التركية المملوكية، وفى دخول العصور الحديثة، وها نحن نلح فى الطلب لا نزال، ونقول اليوم عن الخطاب الدينى المتخلف ما كنا نقوله عنه منذ أكثر من قرنين.

والذين قرأوا مقالة الأربعاء الماضي، قرأوا ما ذكره الشيخ حسن العطار عن الخطاب الدينى كما يتبناه الأزهر، فيقول إنه كان مجرد نقل عن القدماء وتكرار لما قالوه دون أى مراجعة أو إضافة أو اجتهاد.

&&

والذين قرأوا الحديث الذى أجراه «الأهرام» فى الأسبوع الماضي، مع الشيخ محمود عاشور عضو مجمع البحوث الإسلامية، وجدوه متفقا تمام الاتفاق مع ما قاله العطار قبل قرنين، فهو يقول إن الكتب التى تدرس فى الأزهر الآن كتب قديمة تتحدث عن أشياء لا وجود لها، و«مناهج الأزهر ـ كما جاء فى العنوان الذى صدر به الحديث.. لا تواكب العصر»، فإذا كان كلام الشيخ عاشور قد تطابق مع كلام الشيخ العطار، فمن حقنا أن نقول إننا فشلنا حتى الآن فى تجديد الخطاب الديني، لماذا فشلنا فى تجديد الخطاب الديني؟ الجواب هو أننا لم نحدد حتى الآن ما نقصده بتجديد الخطاب الديني.&

نحن نظن ـ أو كثيرون منا ـ أن تجديد الخطاب الدينى لا يتطلب إلا بعض المواعظ الحسنة، وبعض الفتاوى المتساهلة التى نوفر بها للمسائل التى جدت فى حياتنا غطاء دينيا، كالفوائد المصرفية، وتولى المرأة بعض المناصب، وزرع الأعضاء، ولهذا نتجه بطلبنا الى علماء الأزهر، لأن الفتوى الدينية هى تخصصهم العلمى وهى نشاطهم المهنى الذى يمارسونه، بما يملكونه من نصوص موروثة هى ذاتها النصوص التى نشكو من تحجرها وعجزها عن التجاوب مع روح العصر والإجابة على أسئلته، لكن هؤلاء السادة يتحايلون أحيانا على هذه النصوص التى تختلف فيما بينها، وتحتمل أكثر من قراءة ويستخرجون منها ما يريدون أو يريده السائل طالب الفتوي، خاصة اذا كان صاحب جاه أو سلطان.&

وتجديد الخطاب الدينى بهذه الطريقة لا يمكن أن يتحقق، لأن الخطاب الدينى ليس مجرد نصوص محايدة ننطقها بالمعنى وبعكس المعني، وإنما هى تعبير عن عقلية، وهى نتاج لعصر مضى وانقضى وأصبحنا فى عصر آخر له مطالبه وله خبراته والتزاماته العملية والأخلاقية، التى يجب أن تكون هى مدخلنا فى فهم الواقع وفهم النصوص وليس العكس، فنحن لن نفهم الواقع ولن نجيب على أسئلته بخطاب دينى نكتفى بترقيعه أو ترميمه، وإنما نحتاج لخطاب دينى جديد يبدأ من التسليم بما جد فى الواقع من حقائق انتقلنا بها من عصر الى عصر آخر، فلابد من الاعتراف بها والانطلاق منها.&

نعم، فقه الواقع وفهمه هو مدخلنا الى فقه الدين والى صياغة خطاب دينى جديد يتحقق به الحديث الشريف «إن الله يبعث على رأس كل مائة عام من يجدد لهذه الأمة دينها».&

والله يعلم أن مئات السنين مرت دون أن نتمكن من تجديد ديننا وإن تعالت أصواتنا فى طلب التجديد وتعددت محاولاتنا، لأننا نظن كما أشرت من قبل، أن تجديد الخطاب الدينى اختصاص مهنى يتولاه رجال الأزهر وحدهم.&

لا، رجال الأزهر لهم دون شك مكانهم المعلوم فى ثقافتنا الدينية والأدبية، وهم يستطيعون أن يؤدوا دورا أساسيا فى تجديد الخطاب الديني، ولكن بشرط هو ألا يكونوا وحدهم، لأن الحكمة هى ضالة المؤمن وهى ضالة الناس جميعا، وقد رأينا أن احتكار الكلام فى الدين لم يخدم الدين، بل حرمه من اجتهادات لا يطعن فى صحتها ولا يقلل من قيمتها أن أصحابها لم يتخصصوا فى علوم الدين الذى نعلم أنه ثقافة مشتركة، وأنه فطرة الله التى فطر الناس عليها، فلسنا فى حاجة لأن نكون جميعا أئمة حتى نهتدى لما يتفق مع روح الدين ويعبر عنها، وزكى نجيب محمود لم يكن أزهريا حين ميز فى التراث بين المنهج والأحكام، ودعا للاستفادة من المنهج الثابت وطرح الأحكام المتغيرة، وكذلك نقول عن فرج فودة وعن نصر حامد أبوزيد، وقد رأينا بعد ذلك أن احتكار الكلام فى الدين يغرى بعض المؤسسات الدينية، بأن تتحول الى سلطة تفرض نفسها على الإسلام الذى لا يعرف السلطة الدينية، ويجعل الفتوى حقا للقلب البشرى قبل أن تكون حقا لمفتى الجمهورية، ولست فى حاجة لأضيف أن الخطاب الدينى الذى نجأر بالشكوى من تخلفه وتحجره هو الخطاب الذى تبناه الأزهر ولايزال يتبناه، كما رأينا فى شهادة الشيخ محمود عاشور وشهادة سواه، ومن حقنا إذن أن نسائل الأزهر وأن نحاوره ونجتهد معه فى الوصول الى خطاب دينى جديد نعرف جميعا أنه يحتاج لمن يقرأون الواقع قبل حاجته لمن يقرأون النصوص.&

وهناك من يجعل النص الدينى قيدا للواقع أو يجعل الواقع نفيا للنص الديني، وهذا تبسيط وإساءة فهم للنص وللواقع على السواء.&

الواقع ليس مجرد ظواهر عابرة وأشكال متغيرة، وإنما الواقع قوانين وحقائق تتمثل فى أشكال تتطور وتتغير، وكذلك الدين، فالدين عقائد وأصول من ناحية، وأحكام ونظم ومذاهب واجتهادات من ناحية أخري، العقائد والأصول ثابتة، والأحكام والمذاهب والاجتهادات استجابات لشروط الزمان والمكان، تتغير وتتطور لأن الواقع من حيث هو صور وأشكال يتغير ويتطور، وبهذا يلتقى النص والواقع ويصدق كل منهما الآخر، فنحن فى حاجة للدين والدنيا معا، وباستطاعتنا دائما أن نوفق بينهما، والشرط الوحيد أن نعرف لكل منهما مكانه فى حياتنا فلا نخلط بين الثوابت والمتغيرات كما نفعل فى خطابنا الدينى الراهن.&

نحن فى هذا الخطاب نخلط بين الدين والسياسة فنؤله حكامنا ونتحول الى عبيد، ونخلط بين الدين والعلم فنحول العلم الى خرافة وشعوذة، ونخلط بين الدين والفن فنصادر الحرية ونحاصر الإبداع، ونخلط بين الدين والتاريخ فنتبرأ من أجدادنا الفراعنة وننحاز لبنى إسرائيل.&

هل نستطيع أن نتحرر من هذا الخطاب المتخلف؟&

نعم نستطيع بشرط، أن نفصل بين الثوابت والمتغيرات.