&بكر عويضة

أخطأ ديفيد كاميرون حسابات الالتزام باستفتاء عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، وتقدير احتمالات نتائجه، فخسر رئاسة الحكومة وزعامة المحافظين. وإذ دفع ثمن ذلك الخطأ باستقالته، فإنه كسب الاعتداد بكرامته، واحترام الآخرين وتقديرهم له، بمن فيهم خصومه كسياسي. والحق أنني رغم الاختلاف مع جوانب من سياسات كاميرون، سواء في الشأن الداخلي أو على الصعيد الخارجي، فقد أحسست بكثير من التعاطف إزاء شخصه وهو يعلن للملأ استقالته، صباح الجمعة (24 يونيو/ حزيران 2016) التالي لخميس استفتاء عضوية بلده في الاتحاد الأوروبي. وللتعاطف هنا أسباب تتجاوز العواطف المجردة فتقف إلى جانب عقلانية المنطق.
في هذا السياق، تجلى السبب الأول لتعاطفي مع موقف كاميرون عندما احتدم صراع الأفكار بين حجج فريق البقاء ضمن اتحاد أوروبا ومزاعم دعاة الخروج منه. بدا الرجل على درجة عالية من حماسة الاقتناع بما يدعو إليه. وكما هو معروف، كي تقنع غيرك، يجب أن تبدأ بنفسك، فغير المعتقد بما يقول لن ينجح في إقناع غيره.

والواقع أن محاججة كاميرون لصالح البقاء ضمن الاتحاد الأوروبي كانت تكفي لحسم أصوات أعداد بين شرائح الحائرين حتى اللحظات الأخيرة (كنتُ شخصيًا بينهم)، لكنها فشلت في دفع ما يكفي من الشبان والشابات لوضع الكسل جانبًا، والاقتراع إلى جانب مصالح تضمنها لبلدهم عضوية الاتحاد الأوروبي، وتفوق كثيرًا فوائد الخروج منه، وفي مقدمها ضمان السوق الأوروبية الواحدة، بدل بدء معمعة البحث عن بديل خارجها، تشبه أو تماثل صيغة النرويج أو سويسرا، وكلاهما لن يحقق القفل التام لأبواب بريطانيا أمام حرية تنقل الأفراد داخل أوروبا.

بسبب خطأ تكاسل أعداد الناخبين الشباب، وهم وهن أصحاب المصلحة الأكبر في مستقبل بريطاني متواصل مع محيطه القاري، انتصر الجيل المتقاعد المنتمي إلى ما فوق الستين في العمر، والذي صوّت بإقبال واضح كان دافعه الخوف من أشباح ملايين الأتراك الذين قيل إنهم على أهبة الاستعداد لاحتلال ما تبقى من جزر بريطانية، لم يغزها بعد بولنديون أو لتوانيون أو مجريون... إلى آخر قائمة الدول الأعضاء، أو المرشحة لدخول الاتحاد الأوروبي. تلك كانت كذبة استخدمها بلا خجل قادة معسكر الانفصال، وفي مقدمهم نايغل فاراج، المستقيل الآن من زعامة حزب الاستقلال، بقصد إحراج ديفيد كاميرون، وبهدف محدد هو إخراج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ولقد اعترف فاراج نفسه بأن هذا كان هدفه، إذ قال في بيان استقالته إنه يريد الآن «استعادة حياته بعدما استعاد بلده»، وهو كلام عدّه عقلاء في هذا البلد أقرب إلى سخف «النكتة» منه إلى موقف قائد سياسي أسهم في جرّ بلده للقفز نحو المجهول.

برود موقف جيريمي كوربن، قائد حزب العمال، خلال حملة الاستفتاء، شكل هو أيضًا خطأ غير مفهوم أو مبرر. كيف أقدم الرجل على التمتع بإجازة، ولو لبضعة أيام، خلال فترة تصارع أفكار من شأن حسمها تقرير مستقبل بلده لأجيال مقبلة؟ سؤال أثير في حينه، وهو دافع عن نفسه وراح ينشط، إنما كان الوقت قد تأخر، والأرجح أن ذلك التردد سوف يظل يلاحق ظل كوربن السياسي، سواء بقيت زعامة الحزب بين يديه، أو انعقد اللواء للعمالية أنجيلا إيغل التي تحدت زعامته، رغم ما يحمله التحدي ذاته من مخاطر تفتت الحزب، وإذا تحقق لها ما تطمح إليه، فسوف توثق سابقة تاريخية تتمثل في أن زعامتي العمال والمحافظين تتولاهما امرأتان، وكما سيلفت النظر مشهد سيرهما جنباً إلى جنب عند افتتاح دورة مجلس العموم، سيكون من المثير متابعة المواجهة بين السيدتين خلال مداولات البرلمان.

حقًا، الخطأ قد يلد أخطاء. وإذ بما دوّنت أعلاه استبدل ما كتبت قبل الاطلاع على ما طرأ من تطورات ويستمنستر، حي الحكم في هذا البلد، وهو نص لم يكن بعيدًا عن أجواء ما تجره أخطاء القادة على شعوبهم من كوارث، أجدني أجدد تعاطفي مع ديفيد كاميرون، المغادر زعامة الحزب ورئاسة الوزراء فقط من منطلق الاعتداد بكرامة الشخص، والالتزام بتسديد ثمن الموقف، فهو ألزم نفسه باستفتاء لم يكن مضطرًا إليه، لكنه خاطر بإرضاء تيار نايغل فاراج، وكان بوسعه الاستمرار رغم النتيجة حتى مايو (أيار) 2020، وبتقديري أن ذلك كان سيشكل التصرف الأفضل. لكن، في الآن ذاته، تجدني أتساءل: ألا يشعر بشيء من الخجل إزاء استقالة كاميرون ساسة عرب دفعت بلادهم باهظًا ثمن أخطائهم؟ الجواب الأرجح: كلا، بل الأصح عندهم أن يلد الخطأ أخطاء، بصرف النظر عن العواقب.
&&

&