&سليمان جودة
&
إذا أراد أحد أن يتصور حجم المأزق الذي يواجه حكومة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في هذه الأيام، فليراجع ما يصدر إزاء الذين نفذوا محاولة الانقلاب الفاشلة عليه، مساء الخامس عشر من هذا الشهر، ثم ما يخرج عن مقر الاتحاد الأوروبي، في بروكسل، إزاء إردوغان ذاته، وإزاء تركيا بالعموم، لو ذهب الرجل إلى تنفيذ ما يريده، وما يفكر فيه!

فمنذ أول لحظة من لحظات محاولة الانقلاب، كان هو، ثم كان رئيس وزرائه، يصفان الضالعين في العملية بأنهم خونة، وأنهم إرهابيون، وأنهم...، وأنهم...، إلى آخر الصفات المماثلة!
وكان المفهوم من ترديد التهمة طويلاً أن هؤلاء الخونة، وهؤلاء الإرهابيين، سوف يواجهون العقاب الذي يليق بمن تنطبق عليه شروط الخيانة ومقتضيات فعل الإرهاب!

ولم يكذب إردوغان خبرًا؛ إذ ما كادت المحاولة تفشل، وما كادت أجهزته تضبط الذين تورطوا فيها، حتى راح يلوح، ثم يكاد يصرح، بأن عقابهم جاهز عنده، وأن هذا العقاب لن يكون أقل من الإعدام في حق كل واحد منهم تثبت التحقيقات أنه تورط فعلاً.

وما كاد الاتحاد الأوروبي، من ناحيته، يشم هذه التلميحات لدى الرئيس التركي، حتى راح يطالبه باحترام حكم القانون، واحترام حقوق الإنسان، ولم يشأ الاتحاد أن يترك كلامه في هذا السياق، كلامًا عامًا، وإنما ذهب إلى نقطة محددة منه، فقال إنه يحذر أنقرة من تطبيق حكم الإعدام على المتورطين في هذا الانقلاب.

وكانت السيدة موغيريني، منسق السياسة الخارجية في الاتحاد، أشد وضوحًا حين أعلنتها بصراحة، فقالت إنه لا مكان في الاتحاد الأوروبي لدولة تأخذ بأحكام الإعدام على أرضها!
وأظن أن إردوغان قد غضب عندما سمع بهذا التصريح للسيدة موغيريني، وأظن أنه صار بعدها يتقلب بين نارين: نار الرغبة في أن تكون بلاده عضوًا في الاتحاد بأي ثمن، وبأي طريقة.. فتلك رغبة لا يخفيها منذ صار رئيسًا للحكومة في عام 2002، ثم بين نار أخرى أشد.
وقد كان على امتداد 14 عامًا، يذهب فيطرق باب بروكسل من جديد،

كلما أوصده الأوروبيون أمامه، ولم يكن ييأس، وكان - ولا يزال - إلى ما قبل محاولة الانقلاب بساعة، يحاول وكله أمل!
وكان الأوروبيون يعرفون هذا فيه، وعنه، فكانوا يواصلون الضغط عليه دون رحمة.. فتارة يقولون إن العضوية في الاتحاد لها مواصفات محددة لحالة حقوق الإنسان في البلد الراغب في أن يكون عضوًا، وأن هذه المواصفات لم تنطبق بعد على تركيا، وأن مسافة لا تزال أمامها، وأن على رئيسها أن يبذل المزيد من الجهد.. وكان هو يبذل، ويبذل!. وتارة أخرى، فكروا في أن يجعلوه يفيق من أحلامه، فكان ديفيد كاميرون، رئيس الوزراء البريطاني السابق - مثلاً - يقول في تصريح شهير له قبل ترك رئاسة الحكومة بأيام، إن أمام تركيا قرونًا من الزمان لتكون عضوًا في نادي أوروبا الشهير بالاتحاد الأوروبي!

وكان إردوغان يمسك أعصابه طبعًا في كل مرة يسمع فيها مثل هذا الكلام على لسان أي مسؤول أوروبي. وكانت النار الثانية هي نار الرغبة المؤكدة في إنزال أقسى العقاب بالذين حاولوا إزاحته من الحكم، إذ الأصح أنه لن يرضيه فيهم إلا الإعدام، فقد قال إن البرلمان إذا وافق على إعادة حكم الإعدام، فسوف يوافق هو على ذلك، على الفور. ولا بد أن تصريحًا كهذا كان تلميحًا منه إلى البرلمان الذي يملك فيه أغلبية، حتى ولو كانت بسيطة، بأن ينظر في أمر الإعدام، وأن يعيده كعقوبة كانت مطبقة لدى الأتراك من قبل، ثم ألغوها تقربًا من الاتحاد، لعلهم يصبحون عضوًا فيه ذات يوم!

كان الله في عونه، فهو لا يتقلب بين نارين فقط، إذ يبدو أنه يتقلب فوق جمر متقد، ولا يستجير بالاتحاد إلا ويجد ورقة حقوق الإنسان مشرعة هناك في انتظاره، وإذا كانت قد ظلت كذلك، قبل محاولة الانقلاب، فهي مشرعة اليوم مرتين!&

&