&&خالد محمد باطرفي

&في حياة الأمم مواقف وأحداث تغير من مسارها وتترتب عليها تداعيات كبرى داخلية وخارجية. فأحداث سبتمبر، مثلا، استدعت عاصفة الغضب الأمريكي التي تم استغلالها لتنفيذ أجندات محلية ودولية لم تكن قيود الاستراتيجيات والالتزامات القانونية والديمقراطية والدستورية لتسمح بها قبل11 سبتمبر 2001م.

يبدو أن انقلاب 15 يوليو 2016م سيدخل التاريخ كمرحلة تحول مفصلية مماثلة. فكما انقض الرئيس الأمريكي على قيود المورورث واستفاد من موجة الخوف والرغبة المحمومة في الانتقام والحيلولة دون تكرار الجريمة، استفاد الرئيس التركي من اصطفاف المعارضة معه، ودعم الشارع وتفويضه لتصفية حساباته مع خصومه في الجيش والحكومة وتوطيد أركان حكمه باسم حماية الحكم المدني والتجربة الديمقراطية.

وفي نفس الوقت، تبدلت أولويات الدولة فيما يتعلق بملفات المنطقة وتحالفاتها، فالغرب الذي بدا موقفه ملتبسا تجاه الانقلاب، وأمريكا التي وجدت نفسها في خانة المشتبه بعلاقتهم بالانقلابيين، تراجعوا في ميزان الصداقة، وتقدمت روسيا التي سارع رئيسها إلى الاتصال بالرئيس التركي رجب طيب أوردغان، وإدانة الانقلاب بصرامة ووضوح.

وفيما انشغلت أوروبا بانتقاد قانون الطوارئ والخطوات التي اتخدتها الحكومة التركية لاجتثاث من تتهمهم بالضلوع في المؤامرة أو الارتباط بالمتهم الرئيسي فيها، فتح الله غولن، وهددت بإنهاء مفاوضات انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، والتي تجاوز عمرها اليوم نصف قرن، سارعت روسيا لعرض المساعدة وأيدت تلك الخطوات، وراهنت على عودة العلاقات إلى ما قبل إسقاط الطائرتين السوخوي الروسيتين في 24 نوفمبر 2015م.

وبغض النظر عن الدوافع، فالسياسة لا تعترف إلا بالمصالح، وعليه تحركت تركيا شمالا تجاه الجار الروسي، وقاد رئيسها في أول زيارة دولية له وفدا سياسيا وبرلمانيا واقتصاديا وأمنيا وعسكريا كبيرا، إضافة إلى عدد من كبار رجال الأعمال، ليناقش مع نظيره الروسي كافة الملفات العالقة، الثنائية والدولية، وخاصة الإقليمية.

ويبدو أن هناك انفراجا سريعا في جلّ الإشكاليات، فالمقاطعة الاقتصادية والسياحية الروسية لتركيا طويت، لتمهد لعودة أربعة ملايين سائح، ومليارات الاستثمارات، ومشروع أنبوب الغاز تقرر استكماله، وتجاوبت موسكو مع الاعتراض على علاقاتها المستجدة مع المعارضة الكردية المسلحة. فيما بدا أن الطرفين يطمحان إلى رفع التبادل التجاري السنوي من 23 مليار 2015م) إلى 100 مليار دولار في 2030م.

وعلى المسار السياسي فمشكلة خلاف أذربيجان المدعومة من تركيا، وأرمينيا المدعومة من إيران وروسيا، تبدو في طريقها إلى الحلحلة، وأقل من ذلك يؤمل على المسار السوري.

على أن الأهم، من وجهة نظر الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، هو إعلان الطرفين مشروعا طموحا للتعاون النووي والعسكري. في الوقت الذي صرح وزير العدل التركي أن عدم تسليم أمريكا لغولن سيهدد مستقبل العلاقات بين البلدين، كما انتقد المتحدث باسم الرئاسة إصرار الإدارة الأمريكية على حصر حربها على داعش، وعدم دعمها للمعارضة السورية المعتدلة.

ولاحتواء الغضب التركي تجاه المواقف والتصريحات الغربية، وتردد أمريكا في تسليم غولن، قام رئيس الأركان الأمريكي بزيارة لأنقره مطلع أغسطس الحالي، واعتذر عن تصريحات قائد القيادة الوسطى التي أثنت على تعاون الجنرالات الأتراك المقالين بتهمة المشاركة في الانقلاب، كما أعلن وزير الخارجية جون كيري بعد إعلان لقاء القمة الروسي التركي عن زيارة لأنقرة في 24 أغسطس.

العلاقات التركية- الغربية مرشحة لمزيد من التدهور، إلا إذا قامت أمريكا بتسليم غولن، (وهو أمر يبدو بعيد المنال، خاصة إذا كان لديه ما يحرجها)، وإذا التزمت أوروبا باتفاقها الأخير بخصوص اللاجئين ولطّفت من خطابها السياسي الناقد لقانون الطوارئ وإجراءات ما بعد الانقلاب.

أما العلاقات التركية الروسية فالطريق بات مفتوحا لتطور كبير على المسار الثنائي، وتحسن نسبي على المسارين السوري والإذربيجاني. وفي كل الأحوال فالمصلحة التركية تحتم المضي بقوة على هذا الطريق، لتوازن أنقرة علاقاتها الدولية، وتطور علاقاتها التجارية، وتعود، قدر الإمكان، إلى سياسة «تصفير» الخلافات مع المنطقة المحيطة، بدءاً بإسرائيل وروسيا وإيران وانتهاء بمصر واليونان... فالسياسة مصالح... ولا عزاء للمؤدلجين!