&&عبدالله بن بجاد العتيبي&&&

الدولة التركية بعد محاولة الانقلاب الفاشلة لم تعد هي نفسها الدولة التركية قبله، فقد تمت تحت غطاء الانقلاب العسكري الفاشل إدارة محكمةٌ لانقلاب سياسي بالغ الأثر في السياسة التركية داخليًا وإقليميًا ودوليًا.

داخليًا، مكن الانقلاب العسكري الفاشل الرئيس رجب طيب إردوغان من القرب أكثر لحلمه، بأن يكون رئيسًا استثنائيًا في تاريخ الدولة التركية الحديثة يقارب ما صنعه كمال أتاتورك مؤسس الجمهورية، وإن لم يصل لمكانته بعد لدى الشارع التركي.

فاستطاع إردوغان القيام بانقلابٍ محكمٍ وشاملٍ على غالب مؤسسات الدولة التركية، من مؤسسة الجيش إلى أجهزة الأمن والمخابرات، ومن مؤسسة القضاء التي يفترض أنه لا ولاية له عليها إلى المؤسسات التعليمية من التعليم العام إلى التعليم الجامعي، مرورًا بالمؤسسات الخيرية وصولاً لوسائل الإعلام وغيرها كثير.

لقد تم سجن عشرات الآلاف حتى لم تعد سجون تركيا تحتمل مزيدًا من السجناء فبدأ التفكير بالعفو عن المجرمين المدانين السابقين، وتم فصل عشرات الآلاف من وظائفهم، ولوحقت كل مؤسسات الإسلاموي فتح الله غولن إغلاقًا واعتقالاً وتشويهًا وحربًا ضروسًا لا تبقي ولا تذر، فرفقاء الأمس أصبحت الحرب بينهم حرب وجودٍ وعدم، ليس لها حلول وسط.

إقليميًا، غيرت تركيا كثيرًا من سياساتها الإقليمية تجاه الملفات الكبرى، ففي ملف الأزمة السورية اتخذت موقفًا جديدًا يبتعد عن المعارضة السورية سياسيًا وعسكريًا، ويقترب من نظام الأسد بتغيير الموقف تجاهه، مع ملاحظة أن تركيا في موضوع الإرهاب تخشى من الأكراد أكثر مما تخشى من تنظيم داعش، وقد استقبلت تركيا بالترحاب الدافئ زيارة وزير خارجية إيران جواد ظريف 12 أغسطس (آب) الحالي، واتجهت لتعزيز علاقاتها مع إيران التي كانت قويةً من قبل، وزار وزير خارجية تركيا طهران الخميس الماضي، ومن المرتقب توجه الرئيس التركي لإيران هذا الأسبوع.

وفي ملفٍ آخر، اتجهت تركيا لتعزيز علاقاتها بإسرائيل، وقدّمت مواقف سياسيةٍ تعرب عن الرغبة الحقيقية في بناء علاقاتٍ أكثر تماسكًا وأكثر انفتاحًا وتفاهمًا ورغبةً في نسيان بعض المناكفات الصغيرة في الماضي القريب.

ودوليًا، يبدو أن تركيا استوعبت الضعف والتقهقر والانعزالية والانسحابية التي تسيطر على الإدارة الأميركية الحالية، والخلل الكبير في توازنات القوى الدولية في المنطقة والعالم، ولكنها لم ترَ حلاً إلا في الارتماء في أحضان روسيا الاتحادية، فزار رئيسها روسيا، وقدم الاعتذار الحار تجاه إسقاط قاذفة روسيةٍ، بل وحاول تحميل وزر ذلك على أطراف داخليةٍ تركيةٍ.

في ظل التغيرات المتوالية للسياسة التركية فقد صرّح رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم، بحسب هذه الصحيفة الأربعاء الماضي وفي تصاعدٍ مستمرٍ لمواقف تركيا بأنه، «كما قمنا بتطبيع علاقاتنا مع إسرائيل وروسيا سنطبع علاقاتنا مع سوريا» فهو تدرج سياسي يحكمه شيء من الخوف مع شيء من التجريب والاختبار.

سياسيًا، وبغض النظر عن الملابسات الغامضة المحيطة بمحاولة الانقلاب العسكري الفاشلة والتي سيكشف التاريخ تفاصيلها، فإن الدولة التركية تقوم اليوم بإعادة صياغة كبرى لسياساتها الداخلية والإقليمية والدولية، وهي وإن لم تقطع الصلة بعلاقاتها القديمة فهي بالتأكيد في طور بناء علاقاتٍ جديدةٍ واستراتيجيات مختلفةٍ، وإعادة حساباتٍ كبرى سيكون لها تأثيراتٌ لا يستهان بها.

هذه التغييرات الكبرى في السياسة التركية ستكون لها آثارٌ خطيرةٌ على صراعات المنطقة والنزاعات الإقليمية، وستتطور باتجاهات مختلفةٍ تجاه ملفاتٍ أخرى لا الملف السوري فحسب، ومنها لبنان والعراق وربما اليمن، وربما مصر في سياقٍ آخر.

بلغة السياسة وقوانين الدول، تحتفظ تركيا بعلاقاتٍ قويةٍ وبدعمٍ كاملٍ لجماعة الإخوان المسلمين ولكل جماعات الإسلام السياسي الناشطة في الدول العربية، وهذه الجماعات مصنفةٌ كجماعاتٍ إرهابيةٍ في كثير من هذه الدول، كما أنها جماعات في غالبيتها لديها علاقاتٌ تاريخيةٌ وآيديولوجية مع الجمهورية الإسلامية في إيران، وهي جماعاتٌ ترى أن الأوطان أوثان، وأن الولاء يجب أن يكون للأمة لا للدولة، وأن الآيديولوجيا العابرة للحدود هي الموئل والملجأ.

وبلغة السياسة والقانون أيضًا، فثمة ظاهرةٌ مهمةٌ يجب أن تكون حاضرةً في ذهن كل صانع قرارٍ أو مراقبٍ أو باحثٍ أو متابعٍ في الدول العربية وفي دول الخليج تحديدًا، وهي ظاهرة «الكيان الموازي» كما هو تعبير تركيا بعد محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة والشروع في الانقلاب السياسي، أو هي ظاهرة «الطابور الخامس» كما هو التعبير القديم، وهي عبارة عن وجود جماعاتٍ سريةٍ وتنظيماتٍ هرميةٍ، متغلغلة في مؤسسات الدولة وتمتلك «مشروعيةً» سياسيةً مناقضة لمشروعية الدولة، و«مناصب» وإن كانت متوسطة ولكنها بالغة التأثير بيروقراطيًا، وتحرك «اقتصادًا موازيًا» يدير أرقامًا كبيرةً متنوعة المصادر والأصول، بعضها يدار ضمن مؤسسات الدولة وبعضها يدار من خلال الجمعيات الخيرية، وبعضها يدار عن طريق الاستثمارات الملتوية وغيرها من الطرق المتعددة.

تبرز في هذا السياق أسئلة كثيرة نحو المستقبل، ماذا لو ذهبت السياسة التركية الحالية لمدى أبعد تمت الإشارة لبعضه أعلاه؟ ماذا لو تماهت أكثر مع المشروع الإيراني في المنطقة؟ ماذا لو ذهبت بعيدًا مع الخيار الروسي على المستوى الدولي؟ وهو ما يبدو أنها متجهة له ضمن كثير من المؤشرات.

إن صناعة السياسيات وبناء الاستراتيجيات يجب أبدًا ألا تخضع لردّات الفعل، ويجب ألا تحكمها مشاعر آنية، بل عقل محكم وواقعية صارمة واستشرافٌ صحيح.

كتبت وستكتب أقلامٌ لتأييد الدولة التركية والدفاع عن خياراتها وسياساتها، في الغرب وفي الشرق، لأنها ليست خياراتٍ شخصيةٍ بحتةٍ، ولكنها خيارات تنظيمية وقرارات جماعاتٍ وتوجهات تياراتٍ، وهي ليست معنية أبدًا بالتناقض أو التضاد بمفهوميهما العلميين بقدر ما هي معنية بالحشد والتحريض والتأييد.

بالتوجهات الجديدة لسياسة الدولة التركية وضع إردوغان أتباعه في دول الخليج في مأزقٍ حرجٍ، فهو نسف كل دفاعاتهم عنه بأكثر من صيغة، ورفض تبريراتهم له بأكثر من تصريح، وها هو يتجه بكليته لمنحى لا يوافقون عليه ضمن حزمة التبريرات التي خلقوها له، ولكنه ينظر إليهم كأتباعٍ وعالةٍ كما صرح أحد وزرائه من قبل، فهو يريد منهم التأييد والتبرير والتخريج، وهم مستعدون لكل ما يخدمه ويضر ببلدانهم.

أخيرًا، ليس عيبًا للدولة التركية أو لإردوغان أن يفتش عن سبل خلاصٍ قد تبدو متناقضة، ولكنه لا يستطيع مراوغة كل الأطراف في كل الأوقات، وتبدو انحيازاته الأخيرة مؤشرًا مهمًا على توجهاته السياسية الجديدة.

&

&