&محور العلاقة بين الإعلام والتاريخ، يتميز بعلاقة اندماجية لا يمكن فسخها وتجاهلها، خاصة في عصر الثورة الإعلامية التي نعيشها، وتحول الإعلام إلى أداة نقل مباشر للحدث، بالصوت والصورة وبالزمان والمكان اللذين تجري فيهما الأحداث، بما فيها أشد الحروب أو الكوارث هولا أو القضايا التي تشغل المجتمعات البشرية، بمختلف تنوعاتها، من الاقتصاد والسياسة والعلوم والثقافة والاكتشافات، الأمر الذي أعطى الإعلام قوة حضورا، وقدرة على تشكيل الرأي العام، والتأثير في أرشفة الحدث تاريخيا، ومهما تنوعت الأسئلة حول الإعلام والتاريخ، يبقى يجمعهما رابط أساسي مشترك، يمكن تلخيصه في أن الإعلام المعاصر بات مرجعا توثيقيا لا يمكن تجاهله عند كتابة التاريخ. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن وفقا لورقة يقدم لها الباحث نبيل عودة: هل يمكن أن نرى في المستقبل نهاية لدور المؤرخين، إذا اعتبرنا الإعلام تغطية للأحداث التاريخية؟

الملاحظ في دراسات المؤرخين الاعتماد على كثير من الروايات الإعلامية، بل والاعتماد على نصوص إبداعية، روائية أو مسرحية أو شعرية لفهم الواقع الاجتماعي، وسبر أغوار الحياة الاجتماعية وواقع الحضارات في المجتمعات القديمة السابقة لعصر الإعلام، رغم أن الإعلام نشأ حسب تصوري مع نشوء المجتمعات البشرية الأولى، ويمكن رؤية الرسومات التي تركها الإنسان القديم في أماكن سكناه، قبل عصر الكتابة، كإعلام عن الواقع الذي عاشه الإنسان القديم.

مع ذلك لا يمكن القول إن التاريخ هو فن الرواية مثلا، رغم أن العلاقة بين التاريخ والأدب الروائي فيها تشابهات كثيرة، أهمها أسلوب القص ومحاولة سبر أغوار المجتمع والإنسان بصفته نتاجا للمجتمع. هناك فروق، في حين يشتمل النص الروائي على الخيال الجامح نجد أن التاريخ لا يستطيع إلا أن يلتزم بالحقائق الثابتة وإلا فقد من قيمته المرجعية والعلمية.

ويؤكد عودة من خلال ورقته أن الإعلام حتى في زماننا المعاصر لم يخرج بعد من النشر المتخيل ومحاولة استباق الحدث عبر القراءة المستقبلية للأحداث، أو تحريفه بما يتلاءم مع الموقف والرأي الذي ينطلق منه الإعلامي، أو أصحاب الشأن في الوسيلة الإعلامية، مستطردا "هذا يميز في الأساس وسائل الإعلام الحزبية! بينما الصحافة المستقلة لا مصلحة لها إلا نقل الحدث بدون تحويره إلى هدف سياسي".

التاريخ الذي هو صورة عن عملية التطور الفعلية، هو في نفس الوقت يعتبر انعكاسا للحدث في الفكر، ولا نحتاج إلى كثير من البراهين لنثبت أن انعكاس الحدث في الفكر قد يختلف بين مشاهدي نفس الحدث، ونجد روايات متناقضة من شهود عيان، انعكس الحدث في ذهنهم بصورة مختلفة، وأحيانا متناقضة عن انعكاسه في ذهن الآخرين، طبعا هذا أمر وارد ومقبول.

إذن التاريخ لا يعتمد على التصوير المباشر للأحداث، وإلا تحول إلى كتابة صحفية آنية، التاريخ يعتمد على تحليل عملية تطور الحدث، تشكلها، تحليل ما بين مركبات الحدث، التفاعلات بينها، المؤثرات الذاتية "النشاطات التي تسرع أو تبطئ" والموضوعية في نقل الحدث، بينما التاريخ يرى التطور المنطقي في الأحداث ومعالم التطور، لذلك يمكن وصف التاريخ بالحدث المنطقي المجرد من التسويق الصحفي ومن إثارة دهشة القارئ كما في أسلوب القص الأدبي. الحدث التاريخي هو نص يروي حقائق التطورات والأحداث عبر الالتزام بالمنطق العقلاني وسيرورته الذاتية.

ومن جهة أخرى يرتكب الإعلام بحسب الباحث، في دوافع تسويق "منتوجاته"، تشويها للتاريخ "الخبر – الحدث – المقال – التحليل الإخباري"، هذا الأمر يبرز أكثر في المواضيع التي تسبب نزاعا مع الفكر الماضوي السائد والمسيطر على أكثرية مناهج العالم العربي ومعظم دول العالم الإسلامية ودول العالم الثالث.. وينعكس بقوة في إعلامها.

نحن نعيش عصر ثورة المعلومات، والإعلام هو جزء صغير من مصدر هذه المعلومات، ومع ذلك دور الإعلام يتميز بقيمة كبيرة نظرا لقدرته على التأثير السريع والمباشر في مجمل الرأي العام في المجتمعات البشرية. غير أن التاريخ له مضامينه غير المطلوبة في العمل الإعلامي، وله مصادره الأكثر اتساعا، وأساليبه البحثية المختلفة عن الإعلام، وأدواته التحليلية التي تقربه أكثر من العلم وليس من عنصر الاتصالات التي تميز الصحافة.

ويختم الباحث عودة المقارنة بين التاريخ والإعلام بكون التاريخ أكثر شمولية واتساعا. بالنسبة إلى التاريخ ليس مهما تتبع ووصف كامل لمجرى العملية بكل تفاصيلها وأحداثها، الجوهرية منها وغير الجوهرية، كما في الإعلام.. إنما تحليل تطور الشيء وتشكله، وتأثير القوانين والروابط والتفاعلات، بترابط مع المنطق.