&&توفيق السيف&&

كرس كارل بوبر كتابه «المجتمع المفتوح وأعداؤه» لنقد الفلسفة المثالية التي وجدها أساسا للآيديولوجيات السياسية الشمولية. وأظن أن هذا الكتاب هو الذي منح بوبر الشهرة الواسعة، وجعله واحدا من أكثر الفلاسفة تأثيرا في الوسط الأكاديمي، خلال الربع الأخير من القرن العشرين.

في هذا الكتاب الذي نشر عام 1945، تتبع بوبر جذور النزعة التسلطية - الشمولية في فلسفة أفلاطون، وكارل ماركس، وفريدريك هيغل. وأظن أنه ساهم في كبح الاتجاه الذي تعاظم في منتصف القرن العشرين، الداعي إلى الأخذ بنموذج معدل للاشتراكية في غرب أوروبا.

رغم المسافة الشاسعة التي تفصل بين أفلاطون وماركس وهيغل، فإن رؤية الفلاسفة الثلاثة تشكل أساسا لاتجاه عريض يركز على أولوية «الصالح العام»، على نحو يسمح بإلغاء المصلحة الخاصة في حال التعارض. إن القبول المبدئي بهذه الرؤية التي تبدو - للوهلة الأولى - معقولة، ينتهي إلى إضعاف المبادرة الحرة التي يحركها الميل الفطري عند البشر للكسب والاستزادة، كما يوفر تبريرا للتهوين من حقوق الأفراد وحرياتهم.

وكما رأينا في التجربة الاشتراكية، ومعظم التجارب العربية، فإن هذا الاتجاه قد ينتهي إلى دولة بوليسية شديدة القسوة، مستعدة لاختراق كل الخطوط، بما فيها الحقوق الأولية للأفراد. وطبقا لوصف هما كاتوزيان، فإن دولة من هذا النوع لا تتوقف عند الفرض المتعسف لقانونها الخاص، بل قد تعطي لنفسها الحق في فرض اللاقانون أيضا، حين تصبح أهواء رجالها وآراؤهم الشخصية واجتهاداتهم الخاصة أوامر لا تناقش.

إن التسلط مشكل بحد ذاته، لكن استناده إلى آيديولوجيا حاكمة يجعله أكثر من مجرد سوء تقدير للعواقب، أو شخصنة للسلطة. كل صاحب آيديولوجيا، أيا كان مصدرها أو قاعدتها الفلسفية، يتلبس - بالضرورة - دور الداعي إلى ما يراه حقا أو قيمة فوقية. وهذا يعني منطقيا تمييزه لنفسه، ورفعها فوق من يدعوهم. في الحقيقة، فإنه يرى نفسه متفضلا عليهم حين يدعوهم، وقد يستغرب من بجاحتهم حين يجادلونه، أو يلوم جهلهم إذا رفضوا دعواه.

لو كان داعية الآيديولوجيا شخصا من عامة الناس، فسوف يتوسل - كما هي العادة - بلين الكلام والجدل المعقول، وقد يعدهم خيرا أو يحذرهم من سوء المآل، لو أعرضوا عن رأيه. وفي نهاية المطاف، فإن غاية ما يصل إليه هو الابتعاد عن طريق الرافضين، والتركيز على المستجيبين لدعوته.

لكن الأمر مختلف تماما حين تكون الآيديولوجيا خطابا تتبناه الدولة، وتوجه سياساتها. الدولة - بطبيعتها - لا تعرف، كما لاحظ توكفيل، سوى إملاء قواعد صارمة، وفرض الرأي الذي تميل إليه، مهما كان كريها. بل حتى الإرشاد والتوجيه العام يتحول في سياق عملها إلى أوامر لا تقبل الجدل.

نعرف أن الدولة خادم للشعب، ووكيل عنه، وأمين على ماله. فإذا تحولت إلى داعية آيديولوجي، تغيرت المعادلة، وتحول شغلها إلى تحديد من يقف مع الحق (أي خطابها)، ومن هو منحرف عنه، أو معارض له. بطبيعة الحال، فإن المجتمع سينقسم إلى موال مخلص، ومعارض صريح، ومعتزل مرتاب كاره للسياسة وأهلها.

وإذا استعملت قوتها في فرض الحق الذي تتبناه، أي الخطاب الآيديولوجي الخاص، فإن جانبا مهما من رد الفعل الاجتماعي سينصرف إلى تأليف آيديولوجيا نقيضة تبرر موقف الرفض أو الاعتزال. وفي هذه النقطة، يتحول التمايز الطبيعي بين الحاكم والمحكوم إلى تفارق آيديولوجي وثقافي، ومن ثم انشقاق اجتماعي.

&&

&