&&عبد المنعم سعيد&

يحتفل معظم العالم بعيد العمال في الأول من مايو (أيار)، الولايات المتحدة وحدها هي التي تحتفل به في الاثنين الأول من سبتمبر (أيلول) من كل عام. هو يوم للإجازة الرسمية، ولكنه يعتبر الخط الفاصل بين إجازات الصيف، وبداية موسم العمل في كل المؤسسات الأميركية.

هنا تنتهي إجازات القادة، ويعود الكونغرس للعمل والتشريع مرة أخرى، وتصبح واشنطن عاصمة حيّة مرة أخرى، ليس فقط لأن موظفيها يعودون إليها، وإنما لأن رطوبة وحر ولزوجة الصيف تقترب من نهاية. ولكن مثل ذلك لم ينطبق بحال على الانتخابات الرئاسية الأميركية التي استعرت سخونتها طوال الصيف، ودخلت إلى شهر سبتمبر والمنافسة بين هيلاري كلينتون ودونالد ترامب قد وصلت إلى قمتها. وربما لم يحدث من قبل في تاريخ الانتخابات أن كان التناقض هائلا مثلما عليه الحال في هذه الانتخابات. فالشائع في الدول الديمقراطية عموما أن هناك مساحة كبيرة من الاتفاق حول أساسيات المصالح القومية، والتوجه العام للمؤسسات الرئيسية في الدولة، والثوابت المعروفة في السياسة الخارجية.

ما يحدث في الانتخابات الراهنة يخرج عن كل الأعراف المعروفة، فكلا المرشحين لا يتمتع بالثقة التي كان يتمتع بها المرشحون في السابق، فوفقا لاستطلاعات الرأي العام، فإن 59 في المائة من الشعب الأميركي لا يثق بكلينتون؛ لأن هناك ما يشوب أمانتها في الحياة السياسية، سواء كان ذلك ما ظهر من انفرادها «بخادم» إلكتروني خاص بعيدا عن وزارة الخارجية عندما كانت وزيرة فيها، أو ما تحصل عليه هي وزوجها من عوائد مادية طائلة نتيجة صلاتها القائمة على وجودها في السلطة لمدة طويلة، أو التبرعات غير المعقولة أحيانا التي حصلت عليها مؤسسة كلينتون للأعمال الخيرية. أما بالنسبة لدونالد ترامب فإن 60 في المائة من الشعب الأميركي لا يثق به، ولا بقدراته لتبوء قيادة البلاد، وبالذات للظفر بالقيادة العليا للقوات المسلحة، والسيطرة على أسلحة أميركية النووية. فإذا ما كانت هيلاري لديها مشكلة تتعلق بمدى مراوغتها واستفادتها من الحياة العامة؛ فإن دونالد حاز شكا كبيرا في قدراته العقلية، ومدى ثبات أعصابه وقت الأزمات.

إذا وضعنا حالة الثقة جانبا، فإن جزءا منها كان راجعا إلى ما استخدمه المرشحان من أسلحة كلامية ولفظية، حصل منها دونالد على بعض التفوق في استطلاعات الرأي العام، بعد انعقاد مؤتمر الحزب الجمهوري؛ ولكن ذلك سرعان ما تغير بعد انعقاد مؤتمر الحزب الديمقراطي إلى فارق كبير لصالح كلينتون، تعدى أحيانا عشر نقاط، خصوصا في الولايات الحرجة غير المحسومة مسبقا لصالح الديمقراطيين أو الجمهوريين. ومع اقتراب عيد العمال قام ترامب بتغيير طاقمه لإدارة الحملة الانتخابية، ومعه استسلم هو شخصيا لهذا الطاقم، بحيث بات مستعدا لقراءة خطابات مجهزة من قبل، ولم يمانع في القيام بزيارة المكسيك ولقاء رئيسها، لكي يبدو بمظهر «رئاسي» يقوم بمهام دبلوماسية، ويتحدث جنبا إلى جنب مع رؤساء الدول. نتيجة كل ذلك كان تضييق الفجوة بين هيلاري ودونالد بحيث بات الفارق مماثلا لنسبة الخطأ المحتملة في استطلاعات الرأي العام.

ما بعد عيد العمال سيكون الجولة الأخيرة للانتخابات الرئاسية، التي سيحصل بعدها الأميركيون على رئيس في كل الأحوال لا يثقون به. ويدخل ترامب الجولة ومعه قوة اندفاع كبيرة من تحركات نهاية الصيف، ومن الطبيعي أن يحاول الحفاظ عليها مركزا على نقاط قوته، ومحاولا توجيه الضربات إلى نقاط ضعف كلينتون. خطاب «المهاجرين» إلى أميركا كان مثلا للعوائد التي يحصل عليها ترامب من عرض سياسات محددة متعلقة بقضية بعينها، حدث أن لها قبولا لدى طائفة محددة من المصوتين كانوا في هذه الحالة الجمهور الأبيض الذي يحتاج إلى 64 في المائة منه لكي يفوز في الانتخابات. ولعل ترامب هو أكثر من جاءوا إلى انتخابات الرئاسة الأميركية غير معتمد على تنظيم حزبي، وإنما على قدرة كبيرة على استغلال التلفزيون والأساليب الحديثة، وفي مقدمتها «تويتر» لتوصيل أفكاره وحصار منافسيه. معظم المحللين من ناحية أخرى يرون أن الوصول إلى هذه النسبة مستحيل؛ نظرا لأن ترامب لا يحوز أغلبية بين النساء، والأقليات السوداء واللاتينية والمسلمين والآسيويين، وغيرهم والذين اعتاد الديمقراطيون الحصول على أصواتهم.

كلينتون من ناحيتها لديها أوراق مهمة، أولها أنها الأكثر تنظيما وتمويلا في حملتها الانتخابية في كل الولايات. وفي معركة انتخابية يكون الفارق فيها مثل حد السيف، فإن القدرة التنظيمية على حشد المصوتين تكون عنصرا مهما في كسب المعركة. وثانيها أن كلينتون لديها رصيد كبير خاص بتجربتها السياسية، وخبراتها السابقة من السيدة الأولى، إلى عضو مجلس الشيوخ، إلى وزيرة الخارجية، إلى المرشحة المسماة في الحزب الديمقراطي. وثالثها أن لديها تأييدا ساحقا من اثنين من رؤساء الدولة، وكلاهما له رصيد شعبي كبير: أوباما وكلينتون. ومن المنتظر أن كلاهما سيقوم بدور كبير خلال هذه الجولة الأخيرة من الانتخابات. ورابعها أن كلينتون بالفعل لديها رصيد ما عرف بتحالف أوباما القائم على الأقليات، مضافا إليهم الطبقة الوسطى وشرائحها المتعلمة والنساء المستفزات مما كان من «سوقية» في كثير من خطب ترامب.

الميزان بالتأكيد يعطي كلينتون أسبقية، وقدرة أكبر على الفوز كما أسلفنا من قبل في مقالات سابقة. ولكن القفز إلى استنتاج حدوث ذلك هو مغامرة تتجاهل عناصر مهمة قد تؤدي إلى مفاجأة يستبعدها الكثيرون. فمن ناحية، فإن ترامب معه العامل العام لرغبة الشعب الأميركي الدائمة في التغيير؛ ومن ناحية أخرى أن ترامب يقود بالفعل حملة انتخابية غير تقليدية يطرح فيها القضايا الأميركية من زوايا غير تقليدية، سواء في السياسة الخارجية أو الداخلية. فهو بالتأكيد ليس المرشح الذي يرضى عنه حلفاء أميركا (الناتو ودول معاهدات الدفاع المشترك)، كما أنه على الأرجح المرشح الذي ينتظره منافسوها (روسيا). وكانت مغادرته بالذهاب إلى المكسيك مثمرة له دعائيا، كما أنها لم تغير في شيء من مواقفه إزاء المهاجرين غير الشرعيين، وفي المقدمة منهم المكسيكيون؛ ولكن المدهش أكثر أن أحدا في الإعلام الأميركي لم يطرح شيئا حول كيف يمكن لمرشح أميركي لم يصوت على برنامجه الشعب الأميركي بعد، أن يذهب إلى دولة أجنبية للتفاوض (أو حتى للحديث) فيما يخص شأنا أميركيا خالصا؟ وكذلك الحال في كل المواقف الخاصة بالسياسات الأميركية الخاصة بالتعامل مع قضايا متنوعة أخرى. صحيح أن ترامب قد جعل من قضية المهاجرين القضية المركزية في الانتخابات الأميركية، كما فعل كل أنصار اليمين المتطرف في أوروبا، فإن نجاحه كان أكبر من كل سياسيي اليمين في الدول الأوروبية. على الأرجح، أن نتيجة الانتخابات ستظل معلقة على شعرة واحدة حتى النهاية، ربما مثل ما حدث عام 2000 في انتخابات جورج بوش وآل غور التي حسمتها المحكمة الدستورية العليا. الديمقراطية في الحقيقة ليست نظاما سياسيا سلسا أبدا!

&&

&