&عبد النبي أبوالعرب&

&

يمكن لأي منا أن تأخذه المغامرة أو المناسبة إلى التجول خارج أسوار المدن المغربية التي تعيش عموما على إيقاع الحضارة المعاصرة، بما فيها من هواتف ذكية وتفاعل مستمر في مواقع التواصل الاجتماعي على إيقاع الصبيب العالي للإنترنيت، والجرائد والمقاهي والمطاعم والأسواق والنوادي والملاهي والمنتزهات والجامعات والمصانع وغيرها من مظاهر تقدم الاجتماع الإنساني، ليدخل إلى عالم البادية المغربية، فيأخذه الانطباع فجأة بدخوله عالما آخر، على النقيض تماما عما يألفه في المدينة.&

نعم، يجب القول أنك بدخولك إلى القرية المغربية، تدخل مجالا جغرافيا وديمغرافيا آخر، تحكمه وثيرة وصبيب وبنية وفكرة وثقافة وعقلية واهتمامات وأولويات وأشكال وأعمال مختلفة تماما. إنك تدخل مغربا آخر ببساطة.

&

العالم القروي أولا عالم محافظ كلية. نعم، إنه مرتع المحافظة بامتياز. ونعني بالمحافظة التأخر عن عجلة الحضارة والثقافة ومبادئ الاجتماع البشري في تدبير العلاقات والمعاملات. بما يعنيه كل ذلك من تأخر عن قيم الديمقراطية والحداثة والمدنية وحقوق الإنسان والمواطنة، واستمرار تجدر البداوة والقبيلة والطبيعة، بما يطبعها من القساوة والضعف والمحدودية والبساطة.

&فالعالم القروي في المغرب لا يزال خارج دائرة التقدم الذي تحقق في العمران والبناء والاستهلاك، خاصة في الجبال والقرى النائية والمعزولة، حيث الإنسان القروي يتصارع مع حالة الطبيعة البدائية، يغالبها بكد ساعده. أما كل وسائل الرفاه في العمل والاستهلاك البشري، الفردي والجماعي، الذي مكنته المكننة والصناعة والآلة والتقنية فلازالت تستعصي على اختراق الجدران السميكة للاجتماع البشري في العالم القروي.

&يظل المخزن أيضا، بمفهومه السلطوي التحكمي الهرمي، ثقافة متجدرة، يخترق كل طبقات العلاقات الاجتماعية والثقافية والسياسية. حيث لا تزال هناك طبقية حقيقية في العالم القروي، يتم احترامها بشكل صارم، في كل صمت وتلقائية قد لا يظهران للزائر الغريب، وتنبني على الغلبة الديمغرافية والمادية للعائلات الأكثر مالا وعددا. وإذا كان هذا المخزن تتم إعادة بناءه من داخل العائلة الواحدة في شكل الهرمية السلطوية التربوية التي يتم غرسها في الإنسان البدوي منذ نعومة أظافره، فإنه يرتبط أيضا بالمخزن والسلطة المركزيين، الذين ينجحان دائما في عقد التحالفات القوية مع الأعيان وكبار القبائل.

&هناك أيضا طغيان عام لمظهر الهشاشة بالعالم القروي. فبمجرد تجولك في أزقة القرى وأسواقها تتأكد في ذهنك صورة الفلاح البدوي الذي تحدث عنه جون واتربوري، والذي تعلوه كل مظاهر الانكسار أمام قسوة الطبيعة، في المظهر والملبس، والأسنان المنهارة والبشرة المحترقة المتجعدة، والبساطة في المجلس والمأكل.. إنك تقف ببساطة على معنى الصراع اليومي لأجل ضمان قوت ومشرب وملبس البقاء. أما ما يسمى بالملاهي الفردية (Les Loisirs Individuels)، فلا وجود لهذا الترف الزائد في السلوك القروي.&

لقد ظلت إلى عهد قريب قرى بكاملها معزولة عن عجلة التاريخ، لم تتعرف حتى على السيارة كدابة آلية اكتشفت منذ ما يزيد على القرن ونصف، إلى أن هاجر أبنائها بالمئات إلى أرض المهجر، فعادوا محملين بكل منتجات الحضارة التي ظهرت في تناقض تام مع محيطها البدوي الغارق في العدمية المادية. إذ أصبحنا نشاهد السيارة مركونة أمام منزل طيني، حيث يخرج الوالد في الصباح على ظهر حماره إلى الحقل مبتغيا رزق أبقاره وأغنامه، فيما يخرج ابنه في المهجر على متن سيارته في اتجاه أقرب مدينة يبتغي جزءا من الحضارة التي اكتشفها خارج الحدود، ولا يعود منها إلا في الظلام الدامس.

&

وعلى الرغم من كل ما سبق، فعالمنا القروي ليس كله سوءا. بالعكس، فهو يمثل الصورة الأصيلة للاجتماع الإنساني في حالته الابتدائية، في حالته الطبيعية العذرية، ويمتلك رصيدا فريدا وعميقا من الثروة المادية واللامادية، يجب العمل على إدماجها في المغرب الواحد الموحد الذي يجب أن نعمل جميعا على صناعته.&

وهنا يجب التأكيد على أن المسؤولية تؤول أولا إلى الدولة، التي يجب أن تضمن لهذا العالم القروي، الذي يقطنه إلى حد اليوم أكثر من نصف ساكنة المغرب، كل أشكال ووسائل الاندماج في الحضارة والنهضة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية التي يعيشها على وقها مغرب اليوم.