&محمد علي فرحات&

&انفراط هيئة الحوار الوطني اللبناني ليس مجرد رد فعل على المواقف التفجيرية لرئيس «التيار الوطني الحر» الوزير جبران باسيل الذي قدّم تفسيراً لـ «الميثاقية» يجعل فريقه السياسي ممثلاً رئيسياً بل وحيداً للمسيحيين في الصيغة اللبنانية.

فالحوار الوطني منذ جلساته الأولى هو لعب في الوقت الضائع، لأن أركانه الأساسيين، السنّة والشيعة، ينتظرون نتائج حروب سورية، وربما العراق أيضاً، ليدركوا حجم حضورهم في حكم لبنان. لذلك حظيت اللقاءات الجانبية بين «تيار المستقبل» و «حزب الله» باهتمام داخل لبنان وخارجه، لكونها صمام أمان يمنع تجديد الحرب الأهلية. أما المسيحيون والدروز فيضعون الأيدي على القلوب خوفاً من انتقال الفوضى من الداخل العربي القريب إلى وطن كانوا سادته في لبنان الصغير (حتى الحرب العالمية الأولى) وصنّاعه الأساسيين منذ إعلان لبنان الكبير في عشرينات القرن الماضي وحتى الحرب الأهلية ذات البعد الإقليمي في سخونتها وبرودتها (1975- 1990).

لا يزال اتفاق الطائف المرجع الأساسي لسلام لبنان الذي أنهى حرباً أهلية معقّدة، لكن هذا الاتفاق تحوّل أحجية نتيجة الخروج المتكرر عن بنوده، وبدأ ذلك بتحالف الطبقة الحاكمة مع الاستخبارات السورية في لبنان، بحيث تلعب الاستخبارات دور الحَكَم في خلافات تلك الطبقة، حتى إذا انسحب الجيش السوري أصبح حكام لبنان بلا خيمة تظللهم فانصرفوا إلى صراعات صغيرة عطّلت المؤسسات الدستورية، فدخل الحكم في فراغ الرئاسة الأولى، وانتهى البرلمان إلى شلل يتحرك أحياناً مع بدعة «تشريع الضرورة»، أي إقرار قوانين تتطلبها علاقات لبنان الاقتصادية بالمجتمع الدولي... والحكومة التي يفترض أن تتولى مجتمعة صلاحيات رئيس الجمهورية المنتظَر، آلت إلى التفكُّك غير المعلن، فاستقال بعض الوزراء وامتنع غيرهم عن حضور الجلسات، لتتحوّل حكومة تصريف أعمال، بل أن وزراء كثيرين يتصرفون في وزاراتهم كأنهم ملوك في القرون الوسطى، بلا حسيب ولا رقيب، ثم ها هي هيئة الحوار الوطني المولودة أصلاً لتحسين صورة حكام لبنان انتهت إلى التجميد.

لبنان في العناية المركّزة وليس السياسيون المسيحيون وحدهم، كما يحلو للبعض أن يقول أو يشمت، فالسياسيون المسلمون ليسوا أحسن حالاً، وإن استند الكثيرون منهم إلى قوى إقليمية تنشغل عنهم بما هو أهم في المنطقة المشتعلة. أليس لافتاً أن لبنان لم يستقبل في الآونة الأخيرة مسؤولاً عربياً أو دولياً يحضر خصيصاً لعقد مصالحات بين أهل الحكم المختلفين على الصغائر والكبائر؟ هكذا يبدو لبنان متروكاً لقيادات تعرف جيداً كيف تُقاد، ولها في ذلك خبرة عقدين أو أكثر من السنين، ولا تعرف أبداً أن تقود في مستوى الحكم، لا في مستوى عراضات للأعوان أو للمسلحين الخارجين على القانون.

ويفتخر أهل الحكم بأن الأمن مستتب في وطن تتمزق مؤسساته الدستورية والسياسية والاقتصادية، ولا يكشفون مصدر فخرهم، فيما المواطن العادي الذي دفع أثمان الحروب الصغيرة لا يجد دافعاً إلى الطمأنينة، لأنه إذ يرى الجارة سورية تتمزق يتخوف من أن تنضم الأجزاء «المفيدة» منها، أي الأجزاء «الأسدية»، إلى لبنان، أو تضمّه إليها، فيستعيد أهل الحكم اللبناني خيمتهم السورية، ولكن، هذه المرة، بلا «طائف» ولا لبنان.

الحكم اللبناني في العناية المركّزة بأركانه المسلمين قبل المسيحيين أو معهم. أما عناصر الصحة التي تتغلب على مرض الفساد فيقدّمها المواطنون العاملون في الداخل وبلاد الانتشار، أولئك الذين لا يزالون مقتنعين بمعنى لبنان القائم على الحرية والاعتراف. وثمرة أعمالهم هي إكسير الحياة لوطن ابتُلي بأسوأ طبقة حاكمة في تاريخه، لا تتورّع عن استخدام المشاعر الدينية لامتصاص آخر قطرات الحياة من جسد لبنان المصلوب على شاطئ البحر الأبيض المتوسط.

هذه الصورة السلبية لا تحجب لبنان الحرية والاعتراف، فهو يحظى بأصدقاء داعمين في المنطقة والعالم، وبأصوات دائمة التفاؤل بقدرته على الولادة الجديدة أو الانبعاث من الرماد.

هنا ينبغي تذكير جبران باسيل بأسلاف مسيحيين احتفلوا بأول مجلس نيابي للبنان الكبير تأكيداً لانتمائهم إلى المنطقة على قاعدة الاستقلال والاعتراف، وقد سمّوه «مجلس العمرين» لأنه ضم النائبين عمر الداعوق وعمر بيهم. وفي هذا التذكير إشارة إلى أن المسلمين اللبنانيين ينتمون حقاً إلى وطنهم ويعتبرون وجوده مشروطاً بالضرورة بوجود مواطنيه المسيحيين.