وليد محمود عبدالناصر

لم يتوقف الجدل حول العلمانية منذ ظهور هذا المفهوم في المجتمعات الإنسانية خلال سنوات وعقود خروج أوروبا من حقبة الظلام في العصور الوسطى وحتى يومنا الحالي، لكنه بالتأكيد كان أحياناً مُستعراً وأحياناً أخرى خافتاً وأحياناً ثالثة معتدلاً ومتعقلاً. 

ولم يقتصر هذا الجدل على أوروبا، خصوصاً منذ القرن السابع عشر وخروج القوى الأوروبية كقوى استعمارية من قارات العالم الأخرى، خصوصاً في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، وارتباط هذا الاستعمار في كثير من الأحيان إما بمحاولة فرض أنماط ثقافية ومنظومات قيمية على شعوب تلك المستعمرات، أو حتى من خلال مجرد التفاعل بين ثقافات المستعمِرين الأوروبيين من جهة وثقافات الشعوب المستعمَرة من جهة أخرى. واكتسب هذا الجدل حرارة خاصة وطابعاً مختلفاً عندما تعلق الأمر بالعلاقة مع الإسلام، وحين دعا البعض، سواء من دوائر أوروبية أو من أبناء الشعوب الإسلامية، إلى تبني العلمانية في البلدان الإسلامية، سواء من خلال نقل النموذج الأوروبي وإعادة إنتاجه في هذه البلدان أو من خلال تصور مختلف للعلمانية يراعي الاختلاف في سياق التطور التاريخي بين المسيحية والإسلام وفق أصحاب هذا الرأي.

لكننا في هذا الحيز المتاح نتناول تجدد هذا الجدل أخيراً على خلفية قرارات أصدرها بعض مجالس البلديات الفرنسية المعدودة، ثم نقض بعضها مجلس الدولة الفرنسي لاحقاً، في شأن حظر ارتداء السيدات ما اتُفق على تسميته «البوركيني»، أو لباس البحر الإسلامي للنساء، وفق تعبير آخر، على شواطئ تلك المدن. فقد كان في مقدمة المسوغات التي صاغتها سلطات تلك المدن لتبرير قراراتها بحظر ارتداء لباس البحر هذا، هو تناقضه مع التقاليد العلمانية للجمهورية الفرنسية، وذلك إضافة إلى أسباب أخرى. وأدى ذلك التبرير إلى إعطاء مساحة للتساؤلات حول تعريف العلمانية ومضمونها وحقيقة موقفها من الدين وموقعه في المجتمعات الإنسانية وفي سلوكات البشر، ثم طبيعة العلاقة بين العلمانية من جهة والليبرالية وما يرتبط بها من نسق من القواعد والقيم والمبادئ من جهة أخرى.

فالأصل في العلمانية من حيث نشأتها تاريخياً كمفهوم وكنظام حياة مجتمعية في القارة الأوروبية كان المفترض أنه الفصل بين الدين والدولة، وكان ذلك بغرض إخراج أوروبا وشعوبها من قبضة الكنيسة وهيمنتها وسطوتها على المؤمنين من المسيحيين الكاثوليك في نواحي الحياة كافة، وكذلك قامت العلمانية على أساس رفض قيام رجال الدين بتوزيع صكوك الغفران، ووضع حد لممارساتهم الخاصة بمنح مظلة إلهية، أو حق إلهي مطلق للحكم، لحكام مستبدين من منطلق الادعاء بأنهم مخولون من الله بممارسة الحكم المطلق وأن الأتباع مأمورون، أيضاً من الله، بالانصياع والانقياد لأوامرهم وطاعتهم وتنفيذ أوامرهم أياً كانت ومن دون ممارسة أي حق في النقد أو المعارضة.

وعلى رغم الحرص على إخراج الدين من حيز الشأن العام بالنسبة للعلمانية في معناها الكلاسيكي، إلا أن غالبية منظريها أصرت، على اختلاف الزمان والمكان، على تأكيد أن العلمانية ليست معادية للدين في حد ذاته أو أنها تسعى لاستئصاله، بل إنه حتى بالنسبة إلى أيديولوجيات عرفت بأنها إلحادية، وليست فقط علمانية بالمعنى التقليدي للكلمة، مثل الماركسية، بما في ذلك خلال وجود الاتحاد السوفياتي، فإنها حرصت على الصعيد النظري وعلى مستوى الخطاب المعلن ومفرداته على تأكيد أنها لا ترفض الدين، بل ترفض سوء استغلاله أو توظيفه من جانب قوى وصفتها بـ «الرجعية» أحياناً، وبـ «المحافظة» أحياناً أخرى. 

وكانت الرسالة في الحالتين أن التدين شأن شخصي لكل فرد الحق في اتخاذ القرار الذي يخصه في شأنه، وأنه علاقة مباشرة بين الفرد والله. إلا أنه في المقابل، فلا شك في أنه على مر التاريخ، وفي أماكن مختلفة ومتفرقة من العالم، فإن كثراً من المفكرين العلمانيين تشددوا، وإن بدرجات متفاوتة، في درجة ومدى حرصهم على إبعاد الدين عن ساحة المجتمعات، كما أنه من جهة أخرى، فإن الممارسات في الكثير من الحالات الفعلية والتطبيقات العملية على الأرض اتسمت بالتطرف والغلو في تطبيق العلمانية، بل وأحياناً الذهاب إلى أبعد مما قال به الآباء المؤسسون العلمانية، إذا جاز استخدام مثل هذا التعبير في الحالة التي نتناولها هنا.

وهنا نجد أن قوى علمانية كثيرة، ليس فقط في فرنسا، بل في بلدان أوروبية وغربية أخرى، مثل الولايات المتحدة وغيرها، إضافة إلى شخصيات وفصائل تتبنى العلمانية داخل المجتمعات المسلمة، سواء داخل العالم الإسلامي أو بين جاليات المسلمين في بلدان المهجر، قد نددت بالقرارات التي أصدرتها بعض البلديات الفرنسية، على أرضية الانطلاق من الخلفية الأيديولوجية التي استندت إليها تلك البلديات لإصدار أو تبرير قراراتها بحظر «البوركيني»، أي من منطلق الدفاع عن العلمانية التي لا تتدخل في الحياة الخاصة للمواطنين، بما في ذلك الزي أو غير ذلك من صور وأشكال تعكس اختيارات شخصية بحتة.

وتقودنا النقطة السابقة إلى العلاقة بين العلمانية والليبرالية، وهي علاقة غالبة، وإن لم تكن سائدة في كل الحالات التي تبنت العلمانية، لكنها بالتأكيد حاضرة بقوة، في بلدان أوروبا التي تتبنى نهجاً ديموقراطياً ليبرالياً، حيث لا تقتصر الليبرالية على الجانب السياسي، بل المفترض أنها تغطي مناحي الحياة، بما فيها بالتأكيد التفاعلات الاجتماعية والتعامل مع السلوكات البشرية للأفراد كمواطنين أو مقيمين أو مهاجرين أو حتى زائرين. وبناءً على ذلك، تبرز تساؤلات لا تخلو من وجاهة في شأن مدى اتساق هذا التوجه نحو حظر زي معين لفئة معينة من البشر مع الليبرالية وقيمها، وفي المقدمة منها التعايش بين أفراد مختلفي المرجعيات القيمية أو التسامح تجاه الآخرين المختلفين أو احترام حرية الفرد طالما لم تهدد حرية المجتمع أو تؤثر فيها سلباً.

ولكن يتعين إبداء ملاحظتين في هذا السياق، وقبل اختتام هذا المقال. الملاحظة الأولى أن هذه الحالة لم تكن الأولى في دول أوروبا «العلمانية» و «الليبرالية»، وليس من المتوقع أن تكون الأخيرة، والأمر لا يقتصر على فرنسا وحدها، بل يمتد بدرجة أو أخرى إلى الكثير من البلدان الأوروبية الأخرى. فقد شهدنا في السابق قيوداً على تخصيص مقابر للمسلمين أو على ارتداء أزياء معينة أو وضع شارات محددة، وكذلك شاهدنا قيوداً أو صعوبات تواجه بناء دور عبادة إسلامية بدرجات متفاوتة، إضافة إلى تدخلات في بعض الأحيان في تعليم الدين الإسلامي أو كيفية تنظيم الجاليات الإسلامية صفوفَها في بعض بلدان المهجر بأوروبا.

وتتصل الملاحظة الثانية بالتي سبقتها، حيث إنه في الكثير، بل ربما في غالبية تلك الحالات، بما فيها الحالة الخاصة بحظر «البوركيني» في بعض المدن الفرنسية، فإن «العلمانية»، من وجهة نظرنا المتواضعة، كانت على أفضل تقدير مجرد عامل ضمن عوامل أخرى، ربما بعضها أكثر أهمية من الدفع بالأولوية للعلمانية، حيث كان من تلك الاعتبارات القلق على النظام العام أو التخوف من تغير الصورة العامة للمجتمع، أو من حدوث تحولات في الثقافة الاجتماعية، على الأقل لقطاع مهم من المواطنين والمقيمين، بعيداً من تلك التي استقرت في الوجدان والذاكرة الجمعية للشعوب لقرون في بعض الحالات ولعقود في حالات أخرى. 
كذلك قد ترتبط الدوافع الأكثر أهمية بالهواجس تجاه الأمن القومي أو حتى أمن المواطنين من خلال الربط بين زي معين ومسلك جماعات تمارس العنف أو الإرهاب، مع وجود الكثير من التساؤلات حول جدية هذا الربط أو جدواه، وأخيراً وليس آخراً قد تعكس هذه التوجهات والإجراءات درجة ما من الكراهية أو العداء لدين أو لثقافة بعينها، أو على الأقل لتفسيرات معينة لهذا الدين وممارسات محددة في إطار هذه الثقافة.

وبالقطع، لا تتعين المبالغة أو التعميم المفرط لدى تناول حالات كتلك التي عرضنا لها، لكن أهميتها تكمن في العمل على فهمها بتعمق ووصلها بجذور ودوافع بعضها قد لا يكون أحياناً بادياً للعيان في شكل واضح، وكذلك من خلال السعي لوضعها في سياق أشمل بما يساعد على قراءتها في شكل يقود إلى دروس مستفادة من جهة واستنتاجات مستقاة من جهة أخرى تساعد على التعامل مع الحالة محل البحث ومع المعطيات التي أفرزتها حالياً وفي المستقبل، علماً أن ما سبق تناول في الأساس الجانب المتصل بالعلمانية فقط في هذه الأحداث وتداعياتها وردود الأفعال عليها، من دون تجاهل أو إنكار عوامل أخرى، قد تكون في الكثير من الأحيان أكثر أهمية وأقوى دلالة.